الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } * { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } * { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ } * { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ } * { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } * { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } * { وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }

ثم قال الله تعالى: { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [المؤمنون: 13] أي: قطرة أجزاءها متماثلة ونطفة أبعاضها متشاكلة، ثم بإظهار القدرة تصرف في النطفة فجعلها علقة فقال: { ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً } [المؤمنون: 14] يشير إلى أن لكل خلقة رتبة في النطفة خاصية وطبيعة أخرى، وجعل بعضها لحماً وعظماً، وبعضها شعراً، وبعضها ظفراً، وبعضها عصباً، وبعضها جلداً، وبعضها مخاً، وبعضها أمعاء، ثم خص كل عضو بهيئة مخصوصة، وكل جزء بكيفية معلومة، ثم الصفات التي للإنسان خلقها متفاوتة من السمع والبصر والنطق والفكر والغضب والقدرة والعلم والإرادة والشجاعة والحسد والحرص والجود، والأوصاف الكثيرة التي يتقاصر عنها الحصر والعد، فتدل هذه الأحوال المختلفة صورة ومعنى في الأطوار المختلفة صورة ومعنى.

{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [المؤمنون: 14] بنفخ الروح فيه يعني خلقاً غير المخلوقات التي خلقها قبله، وهو أحسنهم تقويماً وأكملهم استعداداً وأجلهم كرامة وأعلاهم رتبة وأدناهم قربة وأخصهم فضيلة؛ فلهذا أثنى على نفسه عند خلقه بقوله تعالى: { فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14] يعني: لأنه خلق أحسن المخلوقين فيما جعلهم معدن العرفان وموضوع المحبة ومتعلق العناية، فإنه لما خلق السماوات والأرضين والعرش والكرسي مع المخلوقات من الجنة ومتعلق العناية، فإنه من الجنة والنار لم يعقبهما بهذا التمدح الذي ذكر بعد نعت خلقه بني آدم تخصيصاً لهم من بين المخلوقات { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ } [المؤمنون: 15] يشير إلى أن الإنسان بعد بلوغه إلى الرتبة الإنسانية قابل للموت مثل موت القلب وموت النفس، وقابل لحشرهما وفي موت القلب حياة النفس وحشرها مودعة، وفي موت النفس حياة القلب وحشره مودع، وحياة النفس بالهوى وظلمته، وحياة القلب بالله ونوره، كما قال الله تعالى:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122] وهذا معنى حقيقة قوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 16].

وبقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ } [المؤمنون: 17] يشير إلى أن أطباق السماوات كما هي حجب تحول بين أبصارنا وبين المنازل العالية من العرش الكريم، كذلك أطوار القلب سبعة هي أغشيتها وحُجبها، كالغضب والشهوة والإرادات الشاغلة، والغفلات المتراكمة.

أما المريدون: فإذا أظلم سحاب الفطرة سكن هيجان إرادتهم، فذلك من الطريق التي عليهم.

وأما الزاهدون: فإذا تحركت عروق الرغبة اهتزت قوة زهدهم وضعف دعائم صبرهم، فيترخصون بالجنوح إلى بعض التأويلات فتعود فتراتهم قليلاً قليلاً وتختل رتبة عرفهم وتتهدم دعائم قصدهم، فبداية ذلك من الطريق التي خلق فوقهم.

وأما العارفون: فريثما يظلهم في بعض أي: بينهم وقفة في تصاعد سرهم إلى ساحات الحقائق فيصيرون موقونين وربما يتفضل الحق سبحانه عليهم بكفاية ذلك فيجدون نفاذاً أو يرفع عنهم ما عاقهم في الطريق، وفي جميع هذا فالحق سبحانه غير تارك للعبد ولا عن الخلق.

السابقالتالي
2