ثم أخبر عن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتربيته بقوله تعالى: { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ } [الحج: 42] يشير إلى: أمر حتَّم الصبر من النبي صلى الله عليه وسلم على مقاساة ما يلقاه من قومه من فنون البلاء وصنوف الأسواء. وبقوله تعالى: { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [الحج: 45] يشير إلى: خراب قلوب أهل الظلم، فإن الظلم يوجب خراب أوطان الظالم، فيخرب أولاً أوطان راحة الظالم وهو قلبه، فالوحشة هي غالبة على الظلمة من ضيق صدورهم، وسوء أخلاقهم، وفرط غيظهم على من يظلمون عليهم، كل ذلك من خراب أوطان راحاتهم وهي في الحقيقة من جملة العقوبات التي تلحقهم على ظلمهم، ويقال: خراب منازل الظلمة ربما يستأخر وربما يتعجل، وخراب نفوسهم في تعطلها عن العبادات بشؤم ظلمها كما قال تعالى: { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } [الحج: 45] وخراب قلوبهم باستيلاء الغفلة عليهم خصوصاً في أوقات صلواتهم وأوان خلواتهم فهو غير مستأخر. وبقوله تعالى: { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } [الحج: 45] يشير إلى: العيون المتفجرة التي كانت في بواطنهم وكانوا يستقون لإحياء أوقاتهم من غلبات الإرادة وتوجيه المواجيد، فإذا انفقوا بظلمهم غلب غشاؤها بقطع وانقطع ماؤها؛ لانسداد عيونها، ويشير بقوله تعالى: { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [الحج: 45] إلى: تعطيل أسرارهم عن مساكنها من الهيبة والإنس، وخلوا أرواحهم عن نوازل المحابة وسلطان الاشتياق وصنوف المواجيد. وبقوله تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الحج: 46] يشير إلى: السير في أرض البشرية، والعبور عنها، والوصول إلى مقامات القلب { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } [الحج: 46] فيه إشارة إلى أن العقل الحقيقي إنما يكون من نتائج القلب بعد تصفية حواسه عن العمى والصمم، كما قال الله تعالى: { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46] فإن صح وصف القلوب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر صفات الحق من وجوه الإدراكات، فكما تبصر القلوب بنور اليقين تدرك نسيم الإقبال بمشام السر، وفي الخبر: " إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن " ، وقال الله تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام أنه قال:{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف: 94] وما كان ذلك إلا لإدراك السرائر دون اشتمام الريح في الظاهر.