الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

ثم أخبر عن فضل الجهاد وبالتعريض حث عليها العباد بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ } [البقرة: 243]، الآيتين والإشارة فيهما أن قوماً لما أمروا بالجهاد في سبيل الله وهو الجهاد الأصغر فجنبوا وخالفوا الأمر وهربوا حذراً من مقاسات شدائد الجهاد، وابتلاهم الله تعالى بموت الأجساد فكيف بقوم أمروا بالجهاد في الله وهو الجهاد الأكبر بقوله تعالى:وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت: 69].

ثم أخبر أن نفع جهادهم إلى أنفسهم وقال تعالى:وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } [العنكبوت: 6]، فإن جنبوا وخالفوا الأمر وفروا من محل مشقة المجاهدة وأعرضوا عن طلب الحق واتبعوا الهوى واشتغلوا بالشهوات واللذات فلا يبتليهم الله بموت القلب بل ولعمري لو لم يمت قلوبهم ما أعرضوا عن الحق في طلب الباطل وفي قوله تعالى:إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } [غافر: 61]، والإشارة أن الله تعالى بفضله وكرمه أحيا قلوب المؤمنين بنور الإيمان قال تعالى:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122]، فقليل منهم أقدموا على أداء شكر الإيمان بالقيام في الأوامر والنواهي كما هو الواجب فاستحقوا بذلك المزيد كما قال تعالى:وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13]، وأكثرهم كفروا بنعمة الإيمان، وركنوا بالخذلان في مخالفة الرحمن فكذبوا بحرمان الجنان وأغرقوا في بحار العصيان، وفي قوله تعالى: { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 244]، إشارة إلى أن إحياء القلوب الميتة مضمر في قتل النفس الأمارة كما قال تعالى:وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } [البقرة: 154] يعني: قتلوا أنفسهم ولكن الله أحيى قلوبهم وأرواحهم فقاتلوا في سبيل الله مع نفوسكم، فإنها أعدى عدوكم واعلموا أن الله سميع دعائكم وتضرعكم إليه في الاستغاثة به والاستعانة به على قتل نفوسكم وإحياء قلوبكم كما سمع دعاء نبيهم عليه السلام في إحياء قومه عليم بصدق نياتكم وبذل جهدكم في جهادكم فيعينكم على قتل نفوسكم ويحيي بأنوار فضله قلوبكم.

ثم أخبر عن طرق من حقيقة القتال مع النفس بطريق بذل المال بقوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245]، والإشارة فيها أن من كمال فضله وكرمه مع عباده أنه خلق أنفسهم ومدهم الأموال ثم اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ثم ردها لهم بالعارية، ثم أكرمهم فيها بالاستقراض ثم شرط بأضعاف كثيرة عليها فقال تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245]؛ يعني: يقرض إلى الله لا إلى الفقير ويعطي لله لا للجنة قرضاً حسناً فالقرض الحسن ما لا يقصد في عوضه غير الله { فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245]؛ يعني: أن العبد لا يطلب إلا على قدره فيعطيه ما هو مطلوبه ما أخفى لهم من قرة أعين أضعافاً كثيرة على قدر كرمه فمن يكون له متاع الدنيا بأسرها قليلاً، فانظر ما يكون له ثم ما يكون أضعافاً كثيرة وقال تعالى: { وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } [البقرة: 245]؛ يعني: هو القابض والباسط هو يقبض الصدقة عن الأغنياء ليطهرهم بها عن أنجاس الدنيا وأدناسها ويبسط على الفقراء لئلا يتقلدوا المنة من الأغنياء ويعظمونهم بقبض؛ لئلا يرى الأغنياء غيره ويبسط لئلا يرى الفقراء غيره بقبض قلوب الأحباء عن الدنيا والآخرة، ويبسط الجود ويقبض الفاني ويبسط الباقي عنك بقاء يفنيه ويبسط به عن باسطيه، وهذا هو معنى: { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245].