وبقوله قال: { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [مريم: 8] يشير إلى أن أسباب حصول الولد منفية من الوالدين بالعقر والكبر وهي من السنة الإلهية، فإن من السنة أن يجعله يخلق الله الشيء من الشيء كقوله تعالى:{ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [الأعراف: 185] ومن القدرة أنه تعالى يخلق الشيء من لا شيء، فقوله: { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [مريم: 8] أمن السنة أو من القدرة. فأجابه الله تعالى بقوله: { قَالَ كَذٰلِكَ } [مريم: 9] أي: الأمر لا يخلو من السنة أو القدرة؟ وفي قوله: { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 9] إشارة إلى أن كلا الأمرين عليَّ هين إن شئت أدت إليكما أسباب حقول الولد من القوة على الجماع وفتق الرحم بالولد كما جرت به السنة، وإن شئت أخلق لك ولداً من لا شيء بالقدرة، كما { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [مريم: 9] أي: خلقت روحك من قبل جسدك من لا شيء بأمر كن، ولهذا قال تعالى:{ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [الإسراء: 85] وهو أول مقدور تعلقت القدرة به. واعلم أن من قوله تعالى:{ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } [مريم: 3] إلى تمام الآيات إشارة أخرى وهي: إن زكريا الروح نادى ربه{ نِدَآءً خَفِيّاً } [مريم: 3] سر الس.{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [مريم: 4] أعظم عظم الروحانية{ وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [مريم: 4] أي: شيب صفات البشرية{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ } [مريم: 4] بموهبة الولد{ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } [مريم: 4-5] أي: صفات النفس أن تغلب{ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي } [مريم: 5] أي: الجثة الجسدانية التي هي زوجة الروح{ عَاقِراً } [مريم: 5] أي: لا يلد إلا بموهبة من الله،{ فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [مريم: 5] وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني، فإنه ولي الروح والنفس التي هي أعدى عدوة.{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [مريم: 6] أي: يتصف بصفة الروح وجميع الروحانيات.{ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [مريم: 6] أن تعطيه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره، قوله:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 5] فأجابه الله تعالى بقوله:{ يٰزَكَرِيَّآ } [مريم: 7] الروح{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } [مريم: 7] وهو القلب{ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [مريم: 7] بإحياء الله إياه بنوره كما قال تعالى:{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [الأنعام: 122] فيه إشارة إلى أن من لم يحييه الله ولم يجعل له نوراً فهو ميت، قوله:{ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [مريم: 7] أي: موصوفاً بصفة لا من الحيوانات ولا من الملائكة قبله وهي قبول فيض الألوهية بلا واسطة كما قال تعالى: " لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن " ألا وهي سر حمل الأمانة التي ضاق أهل السماوات والأرض عند حملها. { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [مريم: 8] أي: قلب بهذه الصفة.