الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } * { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } * { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } * { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } * { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } * { قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً }

ثم أخبر عن مريم وحالتها مع من في الأرض دل حاله بقوله: { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } [مريم: 16] الخطاب مع قلم القدس؛ أي: الكتب في أم الكتاب الذي عنده مكتوب في الأول حالة { مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } [مريم: 16] أي: انفردت من أهل الدنيا وتنحت { مَكَاناً شَرْقِياً } [مريم: 16] وهو القلب المشرق بنور ربه { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } [مريم: 17] من ذلك النور { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [مريم: 17] وهو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله: كن، وإنما سمي نور كلمته روحاً؛ لأنه به يحيي القلوب الميتة كما قال تعالى:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام: 122] فتارة: يعبر الروح بالنور، وتارة: يعبر عن النور بالروح كقوله:وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52] فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [مريم: 17] كما تمثل نور التوحيد بحروف: لا إله إلا الله؛ لانتفاع الخلق به.

والذي يدل على أن عيسى عليه السلام من نور الكلمة قوله تعالى:وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [النساء: 171] أي: نور من نور إلقائه، فلمَّا تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [مريم: 18] يعني: إنك إن كنت تقيّاً من أهل الدين فتعرف الرحمن ولا تقربني بإعاذتي إليه، وإن كنت شقياً فلا تعرف الرحمن فما تعوذتُ منك بالخلق، فأجابها وقال: { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [مريم: 19] طاهراً من لوث ظلمة النفسانية الإنسانية { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [مريم: 20] أي: إذا لم يمسسني بشر قبل هذا { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [مريم: 20] ليمسسني بشر بعد هذا بالزواج وبالنكاح؛ لأني محررة محرَّم عليَّ الزوج { قَالَ كَذٰلِكَ } [مريم: 21] الذي تقولين، ولكن { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [مريم: 21] أن أخلق ولداً من غير ماء منيِّ والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى:إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [آل عمران: 59] { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [مريم: 21] دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولداً من غير أب، كما أني خلقت آدم من غير أب وأم، وخلقت حواء من غير أم { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم: 21] أي: نرحم به من نشاء من عبادنا.

واعلم أن بين قوله: { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [مريم: 21] وبين قوله:يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [الشورى: 8] فرق عظيم وهو: أنه تعالى إذا أدخل عبداً في رحمته يرحمه ويدخله الجنة، ومن جعله رحمة منه يجعله متصفاً بصفته.

السابقالتالي
2