الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } * { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } * { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } * { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً }

ثم أخبر عن تأويل أفاعيله بقوله تعالى: { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي ٱلْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [الكهف: 79] إلى قوله: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } [الكهف: 82] إشارة إلى حقائق ومعانٍ:

منها أن إخراق السفينة وإعابتها لئلا تؤخذ غصباً ليس من أحكام الشرع ظاهرة ولكنه لما كان فيه مصلحة لصاحبها في باطن الأمر جوز ذلك ليعلم أنه يجوز للمجتهد أن يحكم فيما يرى أنه صلاحه أكثر من فساده في باطن الأمر بما لا يجوز في ظاهر الشرع إذا كان موافقاً الحقيقة كما قال: { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [الكهف: 79].

ومنها: لكي يعلم عنايته بنبي من أنبيائه وعناية الله في حق عباده المساكين بأنهم يعملون في البحر غافلين عما وراءهم من الآفات، فكيف إن أدركتهم العناية ونبي من أنبيائه دفع عنهم البلاء ودرأ عنهم الآفة.

ومنها: ليعلم أن الله تعالى في بعض الأوقات يرجح مصلحة بعض المساكين على مصلحة نبي من أنبيائه في الظاهر، وإن كان لا يخلو في باطن الأمر من مصلحة النبي في إهماله جانبه في الظاهر، كما أنه تعالى رجح رعاية مصلحة المساكين في خرق السفينة على رعاية مصلحة موسى عليه السلام، لأنه كان من أسباب مفارقته عن صحبة الخضر ومصلحته ظاهراً كانت في ملازمة صحبة الخضر، وقد كان فراقه عن صحبته متضمناً عطاء النبوة والرسالة ودعوة بني إسرائيل وتربيتهم في حق موسى عليه السلام باطناً.

ومنها: أن قتل النفس الزكية بلا جرم منها محظور في ظاهر الشرع، وإن كان فيه مصلحة لغيره، ولكنه في باطن الشرع جائز عند من يكاشف بخواتيم الأمور ويتحقق له أن حياته سبب فساد دين غيره، وسبب كمال شقاوة نفسه كما كان حال الخضر مع قتل الغلام بقوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } [الكهف: 80] فلو عاش الغلام لكانت حياته سبب فساد دين أبويه وسبب كمال شقاوته، فإنه وإن طبع كافراً شقياً لم يكن ليبلغ كمال شقاوته إلا بطول الحياة ومباشرة أعمال الكفر.

ومنها: تحقيق قوله تعالى:وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216] فإن أبوي الغلام كانا يكرهان قتل ابنهما بغير قتل نفس ولا جرم، وكان قتله خيراً لهما وإن كانا يحبان حياة ابنهما وهو أجهل الناس وكانت حياته شراً لهما، وكان الغلام أيضاً يكره قتل نفسه وهو خير له ويحب حياة نفسه وهو شر له؛ لأنه أراد طول الحياة أن يبلغ إلى كمال شقاوته.

ومنها: أن من عواطف إحسان الله تعالى أنه إذا أخذ من العبد المؤمن شيئاً من محبوباته، وهو مضر له والعبد غافل عن مضرته، فإن حب وشكر فالله يبدله خيراً منه مما ينفعه ولا يضره كما قال تعالى: { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } [الكهف: 81].

السابقالتالي
2