الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ ٱلطَّيْرِ مُسَخَّرَٰتٍ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱللَّهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

قد أخبر عن الفريقين من أرباب القلوب وأصحاب النفوس بضرب المثل بقوله تعالى: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً } [النحل: 75] أي: عبداً للدنيا { مَّمْلُوكاً } [النحل: 75] للهوى { لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [النحل: 75] من مواهب الله وتوفيقه للطاعات، { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا } [النحل: 75] أي: من مواهبنا { رِزْقاً حَسَناً } [النحل: 75] أي: ولاية كاملة { فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ } [النحل: 75] أي: من قوة الولاية يتصرف في البواطن المستعدة لقبول فيض الولاية { سِرّاً } [النحل: 75] أي: في السر والخفية سراً بسرٍ، وإضماراً بإضمار، ويتصرف في ظواهر أهل الإرادة بالموعظة الحسنة والحكمة البالغة { وَجَهْراً } [النحل: 75] أي: ظاهراً في العلانية { هَلْ يَسْتَوُونَ } [النحل: 75] يعني: أهل الولاية وأهل الضلالة.

ثم قال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } [النحل: 75] يعني: على ما أنعم به على أوليائه إنهم كانوا أحق به وأهله { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [النحل: 75] أي: أكثر الناس ممن لا يعلم ما بين الله وبين الأولياء، فإن لهم مع الله أوقات لا يسعهم فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل من غاية صدقهم وإخلاصهم مع الله؛ فلهذا قال: " أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري ".

ثم ضرب مثلاً آخر لكمال التفهيم فقال: { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } [النحل: 76] يشير به إلى النفس الحيوانية غير الناطقة { لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ } [النحل: 76] من العقل والعلم والإيمان { وَهُوَ كَلٌّ } [النحل: 76] ثقل ووبال وعيال { عَلَىٰ مَوْلاهُ } [النحل: 76] وهو الروح الذي يسمونه بعضهم النفس الناطقة { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } [النحل: 76] لأنها أمارة بالسوء ومن شأنها متابعة هواها ومخالفة مولاها { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ } [النحل: 76] يعني: الروح، فإن من شأنه أن يأمر النفس بطاعة الله وحسن عبوديته كما أن النفس تأمر الروح بمعاصي الله وعبودية هواها { وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل: 76] يعني: الروح مع خصوصيته بمكارم الأخلاق والأمر بالعدل هداه الله إلى الصراط المستقيم إلى الله وهو عليه بتوفيق متوجه إليه.

ثم قال: { وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النحل: 77] يشير بغيب السماوات إلى الأرواح، وبغيب الأرض إلى النفوس يعني: هو الواقف على خاصية الأرواح والنفوس، فلو وكلّ كل جنس منها إلى طبعها وخاصيتها لا ترجع إلى ربها، ولا تهتدي إلى ربها بهداية الله إياها يدل عليه قوله تعالى:يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ * ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } [الفجر: 27-28] فرجوعها يكون بالإماتة والإحياء بأن يميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته، وهي من أمر الساعة فقال: { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ } [النحل: 77] في الإماتة والإحياء عند قدرتنا { إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل: 77] أي: بل هو أقرب؛ لأن الإماتة بتجلي صفة الجلال والإحياء بتجلي صفة الجمال، فإذا تجلى الله لعبد لا يبقى له زمان ولا مكان إذ هو فانٍ عن وجوده باقٍ ببقاء الحق تعالى وتقدس { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } [النحل: 77] من المواهب التي يقربها أولياءه { قَدِيرٌ } [النحل: 77]، وإن لم يفهم الأغنياء بقولهم كيفية تلك المعارف والكمالات؛ بل العقلاء بعقولهم السليمة بمعزل عن إدراك تلك الحقائق.

السابقالتالي
2