الرئيسية - التفاسير


* تفسير التأويلات النجمية في التفسير الإشاري الصوفي/ الإمام أحمد بن عمر (ت618 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } * { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } * { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } * { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ }

{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } [العاديات: 6]؛ يعني: إن الإنسان لا يرضى بهذا الفتح لأنه كنود، ويدخل مني الإذن بدخوله في عالم القلب، فالواجب على صاحب الهمم العليّة أن يشكر الله على نعمة الفتح والنصرة في هذا المقام، ثم يسأل منه التوفيق للدخول في عالم القلم وكنوده من علق همته، وعجلته من غاية اشتياقه، وبهاتين الخصلتين اللتين إن ظهرتا تتبدلا بالهمة، والسرعة المحمودة التي أشار إليها الله تعالى حيث قال في كتابه:وَسَارِعُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [آل عمران: 133]، صار الإنسان أشرف الموجودات، وإن لم يكن هاتان الخصلتان موجودتان في ابن آدم، ويمكن له التجاوز عن مقامه، مثل الملائكة الذين يقولون:وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]، وظلمه وجهله وكفرانه أيضاً من الواجبات العالية الهمة في سلوك الطريقة.

كما أن الكنود والعجلة من الموجبات أيضاً إذا ظهر صار صفتين حميدتين معينتين لصاحبهما على قطع الطريق والغلبة على العدو، وبعلو الهمة التي هي نتيجة الكنود المطهر من تلويثات الهوى النفسية، وبسرعة السير لغلبة الاشتياق التي هي من خصائص صفة العجلة المزكاة من كدورات القوى القالبية، بحيث يسير في عمره القصير سيراً باستعداد العجلة، ويصل إلى مطلوبه في سيره، وينتهي سيره في مدة يسيرة إلى ما لا يمكن الوصول لمنتهاه إلا بخمسين ألف سنة لغيره، فذلك الجهل؛ لأنه من جهله تثقل الأمانة قلبه وحملها حيث أبت الكائنات حملها وقبولها، كما يقول تعالى:وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } [الأحزاب: 72] على نفسه،جَهُولاً } [الأحزاب: 72] بحقيقة ثقل الأمانة.

ولولا صفة ظلوميته لما حارب بنفسه وما قاتلها، ولما اجتهد في قلع أشجار خواطرها، وما شد عليها مشربها من ينبوع الهوى، ولولا صفة كفرانه لما التفت إلى تربيته طبيعتها له ورحم عليها، وما حملها على ترك مألوفاتها، وقطع النظر عن مشتهياتها، وما أمرها بالمجاهدة في خلع عاداتها ورفض محبوبتها طباعها، ونفض الأيدي من الدنيا ومتاعها، فكفرانه بنعمة تربيته اللطيفة، وبالنفس التي رباني في حجرها من زمان تعلق الروح بالعلة إلى أن بلغ مبلغ الرجال، وعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وطفق ينفي الباطل ويثبت الحق، وسلك الطريق وعرف المظلوم من المحمود على سبيل التحقيق، سير له قهر النفس وهواها وأضعف الطبيعة وأقواها؛ لأنها أرضعته من الصغر إلى الكبر.

{ وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [العاديات: 7]؛ يعني: أن الحق شهيد بما أودعه من الصفات الجديدة في أجبال قالبه ومعدن نفسه ليكون له استعداد المحاربة وقت الجهاد، ثم يحصل له من هذه الجديدة المرآة التي هي المقصودة من إيجاد المكونات.

{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات: 8]؛ يعني: أن الإنسان لحب المعارف لشديد؛ ولأجل هذه يبخل السالك بمعارفه ولو لم تكن صفة البخل فيه يكون إفشاء لأسرار الطريقة في بداية وصوله إلى المعارف القلبية؛ لقلة عمله فإن إفشاء سر الطريقة لا يجوز، وإظهار علاماتها لغير أهلها منهى عنه، وينبغي للسالك في مقام كشف المعارف القلبية ألاَّ يلتفت إليها ويجتهد في السلوك، ويبالغ في نفي المعارف؛ لئلا ينقطع بالمعارف عن المعروف.

{ أَفَلاَ يَعْلَمُ } [العاديات: 9] السالك { إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ } [العاديات: 9]؛ أي: بعثر ما في قبور القلب، وأبين وأخرج ما في معدته مستكن مستودع.