ثمَّ قال سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وأيقنوا بتوحيد الله ووجوب وجوده { وَهَاجَرُواْ } على بقعة الإمكان طالبين الترقي إلى المراتب العلية { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ } منفقين لها؛ ليتجردوا عنها ويتطهروا نفوسهم عن الميل والمحبة إليها { وَأَنْفُسِهِمْ } ممسكين لها عن مقتضياتها ومشتهياتها، باذلين { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ليتحققوا بمرتبة الفناء فيه، ليفوزوا ببقائه.
{ وَٱلَّذِينَ } تحققوا بمرتبة التوحيد وتمكنوا فيها { ءَاوَواْ } أي: مكنوا ووطنوا من يرجع إليهم، ويسترشد منهم من أهل الطلب والإرادة { وَّ } بعد تمكينهم وتوطينهم { نَصَرُوۤاْ } وأعانوا بالتنبيهات اللائقة إمداداً لهم، وبالواردات الغيبية والإلهامات القلبية والمكاشفات العينية { أُوْلَـٰئِكَ } السعداء المقبولون عند الله، الوالهون في بيداء ألوهيته { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } يتناصرون ويتعانون إلى أن يرتفع تعددهم وتضمحل كثرتهم، وسقط الافتراق والاجتماع عنهم، وانقطع السلوط والطلب، وفني السالك والسلوك و المسلك، وبقي ما بقيى، لا إله إلا هو لا شيء سواه، وكل شيء هالك إلا وجهه.
{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله { وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } إلى الفناء فيه { مَا لَكُمْ } أيها الواصلون { مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } ويتشمروا السلوك مسلك الفناء { وَ } بعدما دخلوا باب الطلب { إِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ } و استعانوا منكم { فِي ٱلدِّينِ } أي: في سلوك طريق التفويض والانقياد { فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ } أي: لزم عليكم أن تنصروهم وتعينوا عليهم؛ ليغلبوا على جنود القوى البهيمية، والشياطين الشهوية والغضبية { إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } من جنود النفس اللوامة المطلعة لغوائل الأمارة الخبيثة ووخمسة عاقبتها { وَٱللَّهُ } المطلع لجميع حالاتكم { بِمَا تَعْمَلُونَ } من النصر والإعاة { بَصِيرٌ } [الأنفال: 72] يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته.