ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } يا أكمل الرسل، و يختارون متابعتك، ويستهدون من هدايتك وإرشادك { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } الذي استخلفك عليهم وجعلك نائباً عن ذاته فيما بينهم، فعليهم ألاَّ ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك، بل وكيف يسع لهم النقض مع أن { يَدُ ٱللَّهِ } وقبضة قدرته الغالبة { فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ } ونقض البيعة والعهد مع رسوله { فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي: ما يعود وبال نقضه إلا عليه { وَمَنْ أَوْفَىٰ } وحفظ { بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ } وهو معاهدتهم مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافته صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه { فَسَيُؤْتِيهِ } للوفاء { أَجْراً عَظِيماً } [الفتح: 10] هو الفوز بشرف اللقاء والتحقيق لدى المولى. { سَيَقُولُ لَكَ } يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار { ٱلْمُخَلَّفُونَ } أي: المنافقون الناقضون للعهود، المتخلفون عن الجهاد { مِنَ ٱلأَعْرَابِ } المجبولين على الكفر والنفاق: { شَغَلَتْنَآ } عن متابعتك ومشايعتك { أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } أي: ليس لنا متعهد سوانا؛ لذلك حرمنا عن صبحتك وعن أجر الجهاد { فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا } يا رسول الله عند الله حتى يغفر ما صدر عننا من التخلف، لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم واستغفارهم هذا، فإنه من شدة شكميتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } تغريراً وتلبيساً { قُلْ } لهم على سبيل التفضيح والتبكيت: { فَمَن يَمْلِكُ } أي: يدفع ويمنع { لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ } القادر المقتدر { شَيْئاً } من غضب الله إن { أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ } شيئاً من لطقه ورحمته إن { أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } وبالجملة: لا راد لفضله، ولا معقب لحكه { بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [الفتح: 11] يجازيكم على مقتضى خبرته. { بَلْ ظَنَنْتُمْ } أيها المتخلفون المثقلون { أَن لَّن يَنقَلِبَ } ويرجع { ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً } بل يستأصلهم العدو، فلن يرجع منهم أحد من سفرهم هذا، بل { وَزُيِّنَ } أي: حُبب وحُسِّن { ذَلِكَ } الاستئصال وعدم الرجوع، وتمكن { فِي قُلُوبِكُمْ وَ } قد { ظَنَنتُمْ } بزعمكم هذا { ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } بالله ورسوله والمؤمنين { وَ } بالجملة: { كُنتُمْ } أزلاً { قَوْماً بُوراً } [الفتح: 12] هالكين في تيه الجهل والعناد. { وَ } بالجملة: { مَن لَّمْ يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } اي: لم يجمع بين الإيمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه { فَإِنَّآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أَعْتَدْنَا } وهيأنا { لِلْكَافِرِينَ } المصرين على الكفر والتكذيب { سَعِيراً } [الفتح: 13] ناراً مسعرة ملتهبة تحيط بهم؛ جزاء ما أوقدوا في نفوسهم نار الفتن والطغيان لأولياء الله. { وَ } كيف لا ينتقم عنهم سبحانه مع أنه { لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } فضلاً وإنعاماً { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } عدلاً وانتقاماً { وَكَانَ ٱللَّهُ } المتصف بكمال اللطف والمرحمة { غَفُوراً } لمن تاب وآمن وعمل صالحاً { رَّحِيماً } [الفتح: 14] يقبل توبة التائبين، ويعفو عن زلاتهم.