ثمَّ قال سبحانه عن سبيل إظهار الفضل الامتنان، والتفرد بمقتضى الألوهية والربوبية: { وَلَقَدْ آتَيْنَا } من مقام عظيم لطفنا وجودنا { لُقْمَانَ } بن باعورا بن ناخور بن آزر، فكان ابن أخت أيوب عليه السلام أو ابن خالته، وعاش إلى أن أدرك داوود عليه السلام فأخذ منه العلم و { ٱلْحِكْمَةَ } وهي عبارة عن اعتدال الأوصاف الجبلية المودعة في النفوس البشرية على مقتضى الفطرة الأصلية، والتخلق بالأخلاق المرضية المنشئة من الأوصاف الذاتية الإلهية، وقلنا له بعدما أنعمنا عليه نعمة الحكمة، وأعددناه لقبول فيضان أنواع اللطف والكرامات: { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } واصرف بمقتضى الحكمة الموهوبة لك من عندنا جميع ما أعطيناك من النعم العظام على ما جبلنا لأجله؛ لتكون من زمرة الشاكرين المواظبين على أداء حقوق جودنا وكرمنا، ومن جملة المطيعين لمقتضيات حكمتنا وأحكامنا. { وَ } أعلم أيها المجبول على الحكمة الفطرية أنه { مَن يَشْكُرْ } نعمنا عاد على نفسه فوائد كرمنا { فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } إذ فائدة شكره عائدة إليه، مزيدة لنعمنا إياه، مستجبلة لأنواع لطفنا وإحساننا معه { وَمَن كَفَرَ } لنعمنا من خبث طينته، وأعرض عن أداء حقوق كرمنا إياه، فوبال كفرانه أيضاً عائد إلى نفسه؛ إذ عندنا الشكر والكفر سيان، ونحن منزهون عن الربح والخسران { فَإِنَّ ٱللَّهَ } المتجلي على عموم الأنفس والآفاق بالاستحقاق { غَنِيٌّ } بذاته عن جميع صور إحسان عباده معه { حَمِيدٌ } [لقمان: 12] هو في ذاته باعتبار أوصافه الذاتية الظاهرة آثارها على صفائح الأكوان والمكونات، المتجهة نحو مبدعها، المثنية له حالاً ومقالاً، سراً وجهاراً. { وَ } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين معناه تذكيراً لهم، وعظةً عليهم: { إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ } المسمى بأنعم أو أشكم، أو ماثان قولاً ناشئاً عن محض الحكمة المتقنة، الموهوبة له من عنده سبحانه { وَهُوَ يَعِظُهُ } ويقصد تهذيب ظاهره وباطنه عن الأخلاق الردَّية والخصائل الدنيَّة، منادياً أياه، مصغراً على سبيل التحنن والتعطف، وكمال الترحم والتلطف، مضيفاً إلى نفسه؛ ليقبل منه ما أوصاه: { يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ } المنزه عن الشريك والشبيه، والكفء والنظير، واعلم أن أجلّ أخلاقك، وأعز أوصافك: التوحيد وتنزيه الحق عن الشبيه والتعديد، وأخس أوصافك، وأرذل أخلاقك، وأردى ما جرى في خلدك وضميرك: الشرك بالله { إِنَّ ٱلشِّرْكَ } واعتقاد التعدد والاثنينية في حق الحق، الحقيقي بالحقية، الوحيد بالقيومية، الفريد بالديمومية، المستقبل بالألوهية والربوبية { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13] لا ظلم أعظم وأفحش، أعاذنا الله وعموم عباده منه. ثمَّ قال سبحانه على سبيل التوصية والمبالغة تأكيداً وتحقيقاً على ما أوصى به لقمان ابنه من النهي عن الشرك، والزجر عنه: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ } وألزمنا عليه أولاً بعدما أظهرناه قابلاً لحمل التكاليف المستكملة { بِوَالِدَيْهِ } أي: بإطاعتهما، وبحفظ آداب المعاشرة والمصاحبة معهما، ورعاية حقوقها على ما ينبغي ويليق بلا فوت شيء من حقوقهما، سيما الوالدة المتحملة لأجله أنواع المحن والمشاق؛ إذ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ } بواسطة حمله في بدء وجوده { وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } أي: ضعفاً على ضعف؛ إذ كلما ازداد نشوءه ازداد ضعفها إلى أن انفصل عنها، وبعد انفصاله تداوم لحفظه وحضانته إلى فطامه { وَفِصَالُهُ } أي: فطامه إنما هو { فِي عَامَيْنِ } وبعد انفطم تلازم أيضاً على حفظه إلى وقت بلوغه، وبعدما بلغ سن التكليف قلنا له: { أَنِ ٱشْكُرْ لِي } أيها المكلف المتنعم بأنواع النعم مني أصالةً وتسبباً؛ لأني خلقتك وأظهرتك من كتم العدم ولم تك شيئاً.