{ أَفَرَأَيْتَ } وعلمت أيها الرائي الخبير { إِن } أملهنا في الدنيا زماناً طويلاً بأن { مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } [الشعراء: 205] فيها تمتيعاً بليغاً، ورفهناهم ترفيهاً بديعاً. { ثُمَّ جَآءَهُم } ونزل عليهم بعد زمان طويل { مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } [الشعراء: 206] من العذاب. { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ } أي: لم يدفع طول مكثهم فيها شيئاً من العذاب، ولم تخفف عذابهم { مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } [الشعراء: 207] أي: تمتيعهم زماناً طويلاً، فإذن لا فرق بين إمهالهم وبين تعجيل العذاب عليهم. { وَ } من سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة { مَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } من القرى القديمة الهالكة { إِلاَّ } أرسلنا أولاً { لَهَا } أنبياءً ورسلاً، هم { مُنذِرُونَ } [الشعراء: 208] مخوفون عمَّا هم عليه من الأمور المستجلبة للعذاب، المستوجبة له. وإنما أرسلنا إليهم وأنذرناهم عمَّا أنذرناهم أولاً؛ ليكون { ذِكْرَىٰ } أي: تذكرة وعظية منها إياهم؛ حتى لا ينسبونها إلى الظلم، ولا يجادلوا معنا وقت حلولك العذاب { وَ } ظهر عندهم أنَّا { مَا كُنَّا ظَالِمِينَ } [الشعراء: 209] بتعذيبهم بأنواع العذاب. { وَ } بعدما نسب المشركون المكابرون تنزيل القرآن المعجز إلى الشياطين، وطعنوا فيه بأنه من جملة ما تلقى الشياطين إلى الكهنة، رد الله عليهم بقوله: { مَا تَنَزَّلَتْ بِهِ } أي: بالقرآن الفرقان، المعجز لفظاً ومعنى، المبني على الهداية المحصنة { ٱلشَّيَاطِينُ } [الشعراء: 210] الضالون المضلون؛ إذ لا يتأتى منهم الهداية أصلاً. { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } الإتيان بالهداية والرشاد { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [الشعراء: 211] ويقدرون عليها؛ إذ الهداية إنما هي من طيب النفس وطهارة الفطرة، وأمَّا استماعهم وسماعهم من الملائكة أيضاً لا يتأتى منهم، ولا يمكنهم. { إِنَّهُمْ } من رداءة فطرتهم وخباثة جبلتهم { عَنِ ٱلسَّمْعِ } لكلام الملائكة { لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 112] لأن الاستماع منهم مشروط بالمناسب لهم في التجرد عن العلائق، وصفاء الفطرة عن أكدار الطبيعة، وقبول الفيض عند هبوب نسمات النفسات الرحمانية، والتعرض والاشتياق منها على الدوام. وظاهر أن نفوسهم الخبيثة ليست بهذه المثابة، والقرآن والفرقان محتوٍ على حقائق ومعارف، ومكاشفات ومشاهدات لا يمكن صدورها إلا ممن هو منبع جميع الكمالات ومنشأ عموم الخيرات، والمطلع بجميع السرائر والخفيات، والقادر المقتدر على جميع المرادات والمقدورات، فكيف يليق بكمال القرآن أن ينسب إلى الشيطان؟! تعالى شأن القرآن عمَّا ينسب الظالمون علواً كبيراً. ثمَّ أشار سبحانه إلى تحريك سلسة أشواق المحبين، وتهييج إخلاص الموحدين المخلصين، المنقطعين نحو الحق، الساعين بإفناء هويتهم الباطلة في طريق توحيده، الباذلين مهجهم في مسلك الفناء؛ ليفوزوا بشرف اللقاء والبقاء. فقال مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم، ناهياً له عن التوجه والالتفات نحو الغير مطلقاً: { فَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ } الأحد الفرد الصمد، المستقل بالألوهية والربوبية { إِلَـٰهاً آخَرَ } من مظاهره ومصنوعاته؛ إذ الكل في حيطة أوصافه وأسمائه لا وجود لها لذاتها، بل إنما هي عكوس وأظلال للأسماء والصفات الإلهية { فَتَكُونَ } أنت بجمعيتك وكمالك لو دعوت، واتخذت إلهاً آخر صرت { مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ } [الشعراء: 113] بأنواع التعذيبات الصورية والمعنوية والعقلية والحسية، الجسمانية والروحانية.