ثم قال سحبانه تحريكاً لحمية عباده، وتشديداً لبنيان اعتقاداتهم بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته: { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ } من مقام جودنا، ولطفنا إليكم إيها المحبوسون في مضيق الإمكان، المقيدون بسلاسل الكفران والعصيان { آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } موضحاتٍ مفصلاتٍ لتوحيدنا وصفاتنا وقدرتنا على الإنعام والانتقام، لعلكم تتفطنون منها إلى علو شأننا وكمال سطوتنا وسلطاننا، مع أن أكثركم لا تتفطنون ولا تتنبهون؛ لانهماككم في بحر الغفلة والضلالة، { وَٱللَّهُ } الهادي لعباده { يَهْدِي } بفضله { مَن يَشَآءُ } هدايته منهم { إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النور: 46] موصلٍ إلى كعبة توحيده بلا عوج وانحراف. { وَ } من انحراف المنافقين، وانصرافهم عن طريق الحق، وميلهم إلى الباطل { يَِقُولُونَ } بأفواههم خوفاً من حقن دمائهم وأموالهم: { آمَنَّا بِٱللَّهِ } المتوحّد في ذاته { وَبِٱلرَّسُولِ } المرسل من عنده لتبليغ دينه وآياته، { وَأَطَعْنَا } لحكم الله ورسوله سمعاً وطاعة { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ } أي: يعرض وينصرف { فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي: من المنافقين { مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ } الإقرار عن حكم الله ورسوله تكذيباً لنفسه، وإظهاراً لما في قلبه من الكفر والنفاق { وَ } لذلك { مَآ أُوْلَـٰئِكَ } الأشقياء المردودون { بِٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 47] المتصفين بالإيمان والإذعان حقيقةً، وإن أقروا واعترفوا على طرف اللسان؛ لأن الإيمان من صفات القلب واللسانُ مترجمُ له. { وَ } كيف كانوا مؤمنين أولئك المنافقون مع أنهمن { إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ } المصلح لأحوال عباده { وَرَسُولِهِ } المستخلفِ منه سبحانه النائبِ عنه بإذنه { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } ويقطع نزاعهم { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } [النور: 48] أي: فأجاءوا إلى الانصراف عن حكم الله وحكم رسوله بعدما دُعوا إلى رسوله إن كان الحكم عليهم. { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ } والحكم { يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ } أي: إلى الرسول { مُذْعِنِينَ } [النور: 49] منقادين طائعين، وبالجملة: هم تابعون لمطلوبهم، وما هو مقصودهم، طالبون أن يصلوا إلى ما أَمِلوا في نفوسهم، بلا ميلٍ منهم إلى الحق وصراطه المستقيم وميزانه العدل القويم. وما سبب ميلهم وإعراضهم؟! { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعرضهم عن قبول الإيمان، والميل إلى اليقين والعرفان { أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ } وترددوا في عدالة الله ورسوله { أَمْ يَخَافُونَ } من سوء ظنونهم { أَن يَحِيفَ } ويميل { ٱللَّهُ } المستوي على القسط والعدل { عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } المتخلقُ بأخلاقه ظلماً، بأن أجازوا الظلم على الله ورسوله { بَلْ } الحق أنه لا شكل في عدالة الله ورسله، ولا يُنسب الحيف والميل إليهما أصلاً، فتعين أنه { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء عن ساحة القبول { هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [النور: 50] المقصورون على الخروج عن حد الاعتدال، المائلون عن الصراط المستقيم لمرض قلوبهم وخبثِ طينتهم. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } المخلصين على عكس المنافقين والمترددين { إِذَا دُعُوۤاْ } عند النزاع والمخاصمة { إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } ويزيل شبههم { أَن يَقُولُواْ } طائعين راغبين: { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } بلا مطلٍ وتسويفٍ، رضينا بما حكمنا الله ورسوله { وَأُوْلَـٰئِكَ } السعداء المقبولون عند الله ورسوله { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [النور: 51] الفائزون بالفلاح، المقصورون على الصلاح والنجاح، ولا يتحولون عنه بل يزادون عليه تفضلاً وامتناناً. { وَ } كيف لا يزادون؛ إذ { مَن يُطِعِ ٱللَّهَ } حق إطاعته وينقاد { وَرَسُولَهُ } حق الانقياد والاتِّباع { وَيَخْشَ ٱللَّهَ } المنتقمَ فيما صدر عنه، ومضى عليه من الذنوب بعدما تاب وندم { وَيَتَّقْهِ } عنه سبحانه فيما بقي من عمره { فَأُوْلَـٰئِكَ } المطيعون المنقادون بالله ورسوله، الخاشعون المخبتون المتقون { هُمُ } المتقون { ٱلْفَآئِزُون } [النور: 52] بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله{ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [يونس: 62].