{ وَ } أيضاً من جملة عتوهم أنهم { لَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ } مرسل { مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ } المرسل للرسل لهداية الناس إلى التوحيد مع أنه { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من الكتب المنزلة على الرسل، الهادي لارتفاع التعدد والاختلاف عن أهل التوحيد مع أن مجيء هذا الرسول منزل مثبت في كتابهم الذي يدعون الإيمان به { نَبَذَ } طرح { فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ } وهو اليهود { كِتَٰبَ ٱللَّهِ } هو التوراة التي أدعوا الإيمان بها { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } ولم يلتفتوا إليه ولم يتوجهوا نحوه بل صاروا من غاية عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 101] ولا يقرأون كتابهم أصلاً. { وَ } بعدما نبذوا التوراة وراء ظهورهم؛ لاشتمالها على أوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر { ٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ } تنسب وتفتري { ٱلشَّيَـٰطِينُ } المردة من الجن { عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } بأن استيلاءه وتسلطه وتسخير الجن والإنس والوحوش والطيور والريح، إنما تم بالسحر { وَ } الحال أنه { مَا كَفَرَ } وسحر { سُلَيْمَـٰنُ } قط بل أمره على الوحي والإلهام الوارد الغيبي { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ } يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور إلى الوسائط أصالة، بواسطة ذلك { كَفَرُواْ } وبعدما كفروا { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } أي: الذي يسترقن منهم { وَ } خصوصاً ما يسترقون من { مَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } المحبوسين { بِبَابِلَ } المسميان: { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } مع أن المنزل إليهما مكر الله مع عباده وابتلاهم وفتنهم { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ } له طريقة وكيفية، بل يقول لمن ظهر له بالسحر: { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } من الله وابتلاء لعباده { فَلاَ تَكْفُرْ } بنسبة الأمور إلينا، ولا تكفر بصدد التعليم أيضاً { فَيَتَعَلَّمُونَ } المسترقون { مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمين لحفظ النسب إضراراً للدين والإيمان { وَ } الحال أنهم { مَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ومشيئته وتقديره؛ إذ لا يجرى في ملكه إلا ما يشاء. وهم مع إذعانهم العلم والعقل { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ } ضراراً فاحشاً في النشأة الأولى والأخرى { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } نفعاً فيهما أصلاً { وَ } الله { لَقَدْ عَلِمُواْ } أي: اليهود { لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ } أي: استبدله؛ أي: كتاب الله بالسحر { مَا لَهُ } للمستبدل { فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ } نصيب لا متنعوا عن الاستبدال، لكنهم لم يعلموا فاستبدلوا، فثبت أنهم ليسوا من العقلاء العالمين، وبعدما عيرهم سبحانه بما عيرهم وجهلهم، كرر تعييرهم مبالغة وتذكيراً للمتذكرين بها، فقال مقسماً: { وَ } الله { لَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ } وأباحوا { بِهِ أَنْفُسَهُمْ } حقائقها ومعارفها ولذاتها الروحانية بالسحر المبني على الكفر بالله وكتبه ورسله وملائكته؛ لأن المشهور من أصحاب السحر أن سحرهم لا يؤثر بالكفر والخباثة والكثافة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 102] يفهمون قباحته لما ارتكبوا، لكنهم لم يعلموا فارتكبوا، فثبت أيضاً جهلهم وسخافتهم.