{ وَ } لكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا { نَادَيْنَاهُ } بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة { مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنِ } أي: ذي اليُمْنِ والبركة وأنواع السعادة لموسى { وَ } بعدما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد { قَرَّبْنَاهُ } بنا إلى أن صار { نَجِيّاً } [مريم: 52] مناجياً بنا متكلماً معنا؛ إذ كنا حينئذٍ سمعه وبصره وجميع قواه، فينا يسمع، وبنا يبصر، وبنا يتكلم. { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن } كمال { رَّحْمَتِنَآ } وفضلنا إياه تأييداً له وتعضيداً { أَخَاهُ هَارُونَ } ليؤيده ويقويه في تنفيذ أحكام النبوة والرسالة { نَبِيّاً } [مريم: 53] ليكون أيضاً على عزيمةٍ صادقةٍ وقصدٍ خالصٍ في إجراء الأحكام الإلهية. { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } أيضاً جدك { إِسْمَاعِيلَ } ذبيح الله الراضي بجميع ما جرى عليه من قضائه { إِنَّهُ } من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها إليه { كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } والعهد عند الله وافياً لميثاقه، صابراً على مصائبه وبلائه، شاكراً لآلائه ونعمائه { وَكَانَ } أيضاً كأبيه وإخوته { رَسُولاً نَّبِيّاً } [مريم: 54] وإن لم ينزل عليه الشرع؛ إذ بعض أولاد إبراهيم. صلوات الرحمن عليه وعليهم. كانوا أنبياء مرسلين جارين على ملة أبيهم وشرعه. { وَ } من خصائله الحميدة أنه { كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } أولاً؛ لأنهم أولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم { بِٱلصَّـلاَةِ } التي هي التوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان، والتقرب نحوه عن ظهر القلب ومحض الجنان { وَٱلزَّكَـاةِ } التي هي تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل إلى مزخرفات الدنيا وحطامها الزائلة، { وَكَانَ } من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق { عِندَ رَبِّهِ } الذي ربَّاه على كمال الرضا والتسليم { مَرْضِيّاً } [مريم: 55] لوفائه الوعد، واستقامته فيه، وصبره على ما جرى عليه من البلوى. { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { فِي ٱلْكِتَابِ } أيضاً { إِدْرِيسَ } صاحب دراسة التوحيد والعرفان، وقالع أهوية النفس وأمانيها بشدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان { إِنَّهُ } من كمال رشده وحكمته { كَانَ صِدِّيقاً } مبالغاً في التصديق والتحقيق { نَّبِيَّاً } [مريم: 56] مبعوثاً إلى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل. { وَ } لعلو شأه وسموّ برهانه وكمال تصفيته، وتزكيته عن لوازم البشرية { رَفَعْنَاهُ } تلطفاً إياه { مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57] هو أعلى درجات المعرفة والتوحيد. وقيل: إلى السماء الرابعة أو السادسة. { أُولَـٰئِكَ } المذكورون من زكريا إلى إدريس كلهم أنبياء الله، وأُمناؤه في أرضه؛ لأنهم { ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } بأنواع النعم الظاهرة والباطنة، واصطفاهم من بين البرية للهداية والتكميل، وهم { مِّنَ ٱلنَّبِيِّيْنَ } المنتشئين { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض { وَ } بعضهم { مِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَ } ابنه يعقوب الملقب من عند الله { إِسْرَائِيلَ وَ } وكلٌ منهم { مِمَّنْ هَدَيْنَا } إلى توحيدنا { وَٱجْتَبَيْنَآ } من بين البرايا للتكميل والتشريع، ووضع الأحكام بين الأنام كلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ودلائل توحيده وتجريده { خَرُّواْ } خرورَ تواضعٍ ورهبةٍ { سُجَّداً } متذللين واضعين جباههم على ترابِ المذلة والهوان، راجعين من سعة رحمته على مقتضى لطفه وجماله { وَبُكِيّاً } [مريم: 58] باكين خائفين من خشية الله بمقتضى قهره وجلاله، فإن المؤمن لا بدَّ أن يكون في جميع حالاته بين الخوف والرجاء.