{ مَّن كَانَ } منهم { يُرِيدُ } اللذات { ٱلْعَاجِلَةَ } والشهوات الفانية الزائلة { عَجَّلْنَا } وأعطيناه { لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } أي: في النشأة الأولى ابتلاءً له، واختباراً وتلبيساً عليه واغتراراً، مطلعون على ما في سه وضميره { ثُمَّ جَعَلْنَا } وهيأنا في النشأة الأخرى { لَهُ جَهَنَّمَ } منزل الطرد والحرمان، حال كونه { يَصْلاهَا مَذْمُوماً } مشئوماً محروماً { مَّدْحُوراً } [الإسراء: 18] مطروداً مقهوراً. { وَمَنْ أَرَادَ } منهم بامتثال الأوامر المتعلقة لمصالح الدين، وباجتناب نواهيه { ٱلآخِرَةَ } أي: اللذة الأخروية الأبدية { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } أي: حق سعيها على مقتضى الأمر الإلهي { وَ } الحال أنه { هُوَ } في حال السعي والاجتهاد { مُؤْمِنٌ } موقن، مصدق بوحدانية الله، وبما جاء من عنده على رسله، بلا شوب تزلزل وتردد { فَأُولَئِكَ } السعداء المقبولون { كَانَ سَعْيُهُم } واجتهادهم في امتثال الأوامر، واجتناب النواهي { مَّشْكُوراً } [الإسراء: 19] مقبولاً مستحسناً، وعملهم مبروراً، وجزاؤهم موفوراً، وهم صاروا في دار الجزاء مغفوراً مسروراً. { كُلاًّ نُّمِدُّ } أي: كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نُيسر ونوفق على مقتضى ما يهوى ويريد { هَـٰؤُلاۤءِ } المؤمنين المطيعين، توفقهم على الطاعات، ونجنبهم عن المعاصي { وَهَـٰؤُلاۤءِ } الكافرين العاصين، نُيسر لهم ما تميل إليه نفوسهم من الأهوية الفاسدة، والآراء الباطلة؛ إذ كلٌّ ميسر لما خلق له. كل ذلك { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل الذي ربَّاك وجميع عباده بأنواع اللطف والكرم { وَ } كيف لا ييسر لهم سبحانه، ولا يوفقهم؛ إذ لا رازق لهم سواه، ولا معطي لهم غيره؟! لذلك { مَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء: 20] ممنوعاً عن الكافر لكفره وعصيانه، موفوراً على المؤمن لإيمانه، بل لا يعلَّل فعل بالأعراض والأعواض مطلقاً، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد إرادةً واختياراً. والتفاوت الجاري بين عباده إنما هو لحكمةٍ ومصلحةٍ استأثر الله به في غيبه، لا اطلاع لأحدٍ عليه؛ لذلك قال: { ٱنظُرْ } أيها الناظر المعتبر { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } في النشأة الأولى بالمال والجاه، والثورة والرئاسة { عَلَىٰ بَعْضٍ } مبتلى بالفقر والمسكنة، وأنواع المذلة والهوان { وَلَلآخِرَةُ } المعدَّة للذات الروحانية، والحقائق والمعارف، والمكاشفات والمشهادات { أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ } لبقاء ذاتها أبد الآباد { وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21] من فضل المستعار الفاني الزائل بسرعة. ومتى اعتبرت أيها المعتبر، وتأملت ما فيه من العبر { لاَّ تَجْعَل } ولا تتخذ { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد، المتعزز برداء الفردانية { إِلَـٰهاً آخَرَ } كفؤاً له، يُعبد بالحق مثله، وكيف تجعل وتأخذ ربّاً سواه؛ إذ ليس في الوجود إلاَّ هو { فَتَقْعُدَ } بعد جعلك واتخاذك إلهاً سواه خائباً خاسراً، بل { مَذْمُوماً } عند الملائكة وجميع النبيين { مَّخْذُولاً } [الإسراء: 22] عند الله يوم العرض الأكبر؟!. { وَ } كيف تتخذ إلهاً سواه، مع أنه { قَضَىٰ رَبُّكَ } وحكم حكماً مقطواً مبرماً { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ } أي: بألاَّ تعبدوا أيها البالغون لحد التكليف { إِلاَّ إِيَّاهُ } إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه؛ إذ هو المستقل بإيجادكم وإظهاركم بلا مشاركة ومعاونة، فعليكم أن تعظّموه وتوقّروه، وتذللوا نحوه غايى التذلل والخضوع.