لذلك أخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجلمة الماضوية تنبيهاً على تحقق وقوعه، فقال: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: يومه الموعود الذي انكشفت فيه السدول، ولاحت الأسرار، واترتفعت حجب التعينات والأستار، واضمحلت السّوى والأغيار، ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل:{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر: 16]؟ وأيجب أيضاً من ورائها:{ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } أي: لا تستعجلوا وقوعه أيها المترددون الشاكون في أمره { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل: 1] له من الآلهة الباطلة، ويدّعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة. بل هو الله الاحد الأحد، الصمد الذي { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ } المقربين عنده { بِٱلْرُّوحِ } أي: بالوحي الناشئ { مِنْ أَمْرِهِ } توفيقاً وتأييداً { عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ } خلَّص { عِبَادِهِ } وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون { أَنْ أَنْذِرُوۤاْ } أي: بأن خوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه، وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم، وقولوا لهم نيابةً عن الله: { أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ } يُعبد بالحق { إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } [النحل: 2] عن مخالفة أمري وحكمي. وكيف تشركون أيها المشركون ما لا يقدر على خلق أحقر الأشياء وأضعفها للقادر الحكيم الذي { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } مع كمال عظمتها وفعتها { وَٱلأَرْضَ } بكمال بسطتها، وإنماخلق ما خلق، وأظهر ما أظهر ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } أي: بانبساط نور الوجود الكائن الثابت في نفسه، وامتداد أظلال أوصافه وأسمائه عليهما، مع أنه على صرافة وحدته، وهما على عدميتهما الأصلية { تَعَالَىٰ } وتقدس { عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النحل: 3] له شيئاً لا وجود له، ولا تحقق سوى الظلية والعكسية. ولا سيما كيف يشركون أولئك الحمقى الضالون للقادر الذي { خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ } وأوجده على أحسن صورة، وأعدل تقويم { مِن نُّطْفَةٍ } دينَّة مهينة، لا تمييز لها أصلاً ولا شعور، وربَّاها إلى أن صار ذا رشد وتمييز وكمال، وإدراك ودارية { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } مجادل مبالغ في امتياز الحق من الباطل، والهداية من الضلال { مُّبِينٌ } [النحل: 4] ظاهر البيان بإقامة الدلائل البراهين القاطعة، وما هي إلاَّ من تربية مبدعها وخالقها القادر المقتدر بالإرادة والاختيار؟!. { وَٱلأَنْعَامَ } أيضاً { خَلَقَهَا } وأوجدها طفيلاً للإنسان؛ ليكون { لَكُمْ } أيها المجبولون على الكرامة الفطرية { فِيهَا دِفْءٌ } تستدفئون به من الألبسة والأغطية المتخذة من أصوافها وأشعارها وأوبارها لدفع الحر والبرد { وَمَنَافِعُ } غير ذلك من الخباء والقباء وغيرهما { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [النحل: 5] لتقويم مزاجكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها. { وَ } أيضاً { لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } وزينة وجاء بين أظهركم { حِينَ تُرِيحُونَ } وتجمعونها إلى المراح من المرعى وقت الرواح مملوءة الضروع والبطون { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } [النحل: 6] وترسلونها إلى المرعى وقت الصباح. { وَ } من أعظم فوائدها أنها { تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } أي: أحمالكم التي تستثقلونها { إِلَىٰ بَلَدٍ } بعيد { لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ } أي: لم يحصل لكم بلوغها إليها لولاها { إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ } أي: بالمشقة التامة، والعسر المفرط، فخلقها سبحانه تيسيراً لكم وتسهيلاً، تتميماً لتكرمكم { إِنَّ رَبَّكُمْ } الذي ربَّاكم بأنواع اللطف والكرم { لَرَؤُوفٌ } عطوف مشفق لكم، يسهل عليكم كل عسير { رَّحِيمٌ } [النحل: 7] لكم، يوفقكم ويهيئ أسبابكم؛ لتواظبوا على أداء ما أُفترض عليكم من كسب المعارف والحقائق الرافعة لكم إلى أرفع المنازل، وأعلى المراتب.