قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ } ، إلى آخر السورة، أي: إن الذين اكتسبوا الكفر في الدنيا يوم القيامة في عذاب جهنم ماكثون أبداً، لا يخفف عنهم العذاب. وهم في العذاب مبلسون، قال قتادة: مستسلمون. وقال السدي: " مُبلسون: متغير حالهم ". وقال الزجاج: " المبلس: الساكت، الممسك إمساك يائس من فرجٍ ". وقال الطبري: المبلس: اليأس من النجاة. وقال النحاس: المبلس: المتحير الذي قد يئس من الخير. ثم قال تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } ، أي لم نظلمهم في عذابنا لهم (ولكن هم) ظلموا أنفسهم بكفرهم في الدنيا. ثم قال تعالى: { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي: ونادى المجرمون بعد دخولهم جهنم مالك خازن جهنم فقالوا: يا مالك لِيُمِتْنَا رَبُّكَ فيفرغ من إماتتنا. روي أن مالك لا يجيبهم في وقت دعائهم، ويدعهم ألف عام ثم يجيبهم فيقول: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } قاله ابن عباس. وقال ابن عمر: إن أهل جهنم يدعون مالكاً أربعين عاماً فلا يجيبهم ثم يقول: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } ، ثم ينادون ربهم:{ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [المؤمنون: 107] فيدعوهم مثل الدنيا ثم يرد عليهم{ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108] فما نفس القوم بعد ذلك بكلمة، إن كان إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. وقال نوف البكالي يتركهم مالك مائة سنة مما تعدون (ثم يناديهم) فيستجيبون له، فيقول: { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ }. وقال السدي: يمكثون ألف سنة مما تعدون، ثم يجيبهم بعد ألف عام، إنكم ماكثون. قال ابن زيد وغيره: ليقض علينا ربك: ليمتنا. القضاء هنا الموت. ثم قال: { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِٱلْحَقِّ } ، أي: لقد جاءتكم الرسل من عند ربكم. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، أي أكثرهم لا يقبل الحق فهذا الذي أنتم فيه جزاء فعلكم. ثم قال: { أَمْ أَبْرَمُوۤاْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } ، (أي: أم أبرم) هؤلاء المشركون من قريش أمراً يكبدون به الحق فإنا مبرمون. أي: نخزيهم ونذلهم ونظفرك يا محمد بهم. قال مجاهد: معناه إن كادوا بشرٍّ كدناهم مثله. وقال قتادة: معناه: (أم أجمعوا) أمراً فإنا مجمعون ". وقال ابن زيد معناه: (أم أحكموا) أمرهم فإنا محكمون لأمرنا. وقال الفراء معناه: أم أحكموا أمرا ينجيهم من عذابنا على قولهم فإنا نعذبهم. يقال: أبرم الأمر إذا بالغ في إحكامه. وأبرم الفاتل إذا أدغم، وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل كما قال زهير:
... مِنْ سَحِيلٍ وَمُبْرَمِ
ثم قال تعالى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ } ، أي: نسمع ذلك ونعلم ما أخفوا وما أعلنوا. ثم قال: { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } ، أي والحَفَظَةُ عندهم يكتبون ما نطقوا به. ويروى " أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر تدارءوا في سماع الله عز وجل كلام عبادة ".