قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ } - إلى قوله - { خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ، " براء " مصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث. تقول: نحن البراء منك، وهي البراء منك. والمعنى / أنني ذو البراء منك، ونحن ذو البراء كما تقول: رجل عدل، (وامرأة عدل، وقوم عدل)، أي: ذوو عدل. ونظيره:{ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [البقرة: 177]، أي: ولكن ذو البر. وقرأ ابن مسعود: " إنني بريء " على " فعيل ". فتجوز التثنية والجمع والتأنيث على هذه القراءة. وجمعه في التكسير: " بُرَآء " (كـ " كُرَمَاء " ). وحكى الكوفيون " براء " على حذف الياء وهو شاذ. وقوله: { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } ، هذا استثناء من قوله " مما تعبدون ". ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول منقطعاً. ومعنى الآية: واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إذ كانوا يعبدون ما يعبد قومك: إنني براء مما تعبدون من دون الله، إلا من الذي فطرني، أي: خلقني، فإني لا أبرأ منه. { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } ، أي سيقونا للحق في ديني. ثم قال تعالى: { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ }. قال قتادة: الكلمة هي شهادة ألا إله إلا الله، لم يزل في ذريته من يقولها من بعده، وقاله السدي، وقال ابن زيد: الكلمة: الإسلام، وهو قوله:{ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 131]. وقال:{ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [الحج: 78]، وقال:{ وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } [البقرة: 128]. والضمير في قوله: { وَجَعَلَهَا } عائد على قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } وضمير الفاعل يعود على الله جل ذكره، أي: وجعلها الله سبحانه كلمة باقية في عقب إبراهيم، فلا يزال من ولد إبراهيم من يوحد الله. وقيل: الضمير المرفوع يعود على إبراهيم، أي: وجعل إبراهيم الكلمة باقية في عقبه، أي: عرفهم التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله وأوصاهم به، وهو قوله:{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ... } [البقرة: 132] الآية. فتوارثوا ذلك فلا يزال من ذريته موحد لله. ويقال عَقِبُ وعقب، بمعنى واحد. والعَقِبُ هنا: الولد في قول مجاهد. وقال ابن عباس: العقب هنا من يأتي بعده. وقال السدي: في عقب إبراهيم: آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن شهاب: العقب: " الولد، وولد الولد ". وقال ابن زيد: " عقبه: ذريته ". وقوله: { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، معناه يرجعون إلى طاعة ربهم ويتوبون إليه. { قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، أي: قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. ففي الكلام تقديم وتأخير. ثم قال تعالى: { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } ، أي: بل متعت يا محمد هؤلاء المشركين من قومك وَمَتَّعْتُ آباءهم من قبلهم بالحياة ولم أعاجلهم (بالعقوبة على كفرهم حتى جاءهم الحق، يعني: القرآن، ورسول مبين، يعني: محمد صلى الله عليه وسلم، لم أعاجلهم)، بالعذاب حتى أنزلت عليهم كتاباً وبعثت فيهم رسولاً يعرفونه، يبين لهم الحجج والبراهين ويبلغ اليهم ما أرسل به.