الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }

قلت: عند الله: معمول لعدة لأنها مصدر، و في كتاب الله: صفة لاثني عشر، و يوم: متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي: ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان. وقوله: منها: أي: الأشهر، ثم قال: فيهن. وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ: منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت: منهن وفيهن، قال تعالى:يَأكُلُهُنّ } [يوسف: 46] وقال هنا: فيهن. انظر الإتقان. و كافة: حال من الفاعل أو المفعول. يقول الحق جل جلاله: { إِنَّ عِدَّة الشهور } في كل سنة { عند الله } في علم تقديره، { اثنا عشرَ شهراً }: أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم: عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وهذه العدة ثابتة { في كتاب الله } اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، { يومَ خَلَقَ السموات والأرض } ، هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، { منها } أي: الأشهر { أربعة حُرُم } ، واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، { ذلك الدين القيم } أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، { فلا تظلموا فيهن أنفسَكم } بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله: { وقاتلوا المشركين كافةً } أي: في الأزمنة كلها { كما يُقاتلونكم كافة } لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم. وقال عطاء: لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحَرم، إلا أن يُبدئوا بالقتال، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم. الإشارة: أهل الفهم عن الله: الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول: كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضي الله عنه: الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. هـ. وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفسهم، ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذه الإشارة بقوله: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد. ثم عاب على المشركين ما أحدثوا من النسيء، فقال: { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ }.