الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } * { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } * { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } * { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } * { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } * { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } * { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } * { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } * { وَهُوَ يَخْشَىٰ } * { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } * { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } * { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } * { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } * { كِرَامٍ بَرَرَةٍ }

يقول الحق جلّ جلاله: { عَبَسَ } أي: كلح { وتَوَلَّى } أعرض { أن جاءه } أي: لأن جاءه { الأعمَى } ، وهو عبدالله ابن أمِّ مكتوم، وأمُّ مكتوم: أمُّ أبيه، وأبوه: شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، وذلك أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال: يا رسول الله علِّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله صلى الله عليه وسلم بالقوم، فَكَرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكرمه، ويقول إذا رأه: " مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي " ، ويقول: " هل لك من حاجة " ، واستخلفه على المدينة مرتين. ولم يُواجهه ـ تعالى ـ بالخطاب، فلم يقل: عبستَ وتوليتَ رفقاً به وملاطفة لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما. و " أن جاءه ": علة لـ " تولَّى " ، أو " عبس " ، على اختلاف المذهبين في التنازع، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم، والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة، وإمّا لزيادة الإنكار، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى. قاله أبو السعود. { وما يُدْرِيك } أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه { لعله يَزَّكَّى } لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل، وأصله: يتزكَّى، فأدغم. وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء، أو: على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً. وقوله تعالى: { أو يذَّكَّرُ }: عطف على " يزّكى " ، داخل في حكم الترجي، قوله: { فتَنفَعه الذِكرَى }: عطف على " يذَّكَّر " ، ومَن نصبه فجواب الترجي، أي: أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، أي: إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك. { أمَّا مَن استغنى } أي: مَن كان غنياً بالمال، أو: استغنى عن الإيمان، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن { فأنت له تَصَدّى } تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه. وفيه مزيد تنفير له صلى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله.

السابقالتالي
2 3