الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } * { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } * { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } * { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } * { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } * { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } * { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } * { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } * { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } * { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } * { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } * { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } * { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } * { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ }

يقول الحق جلّ جلاله: مخاطباً أهلَ مكة، المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم، وتوبيخاً وتبكيتاً، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله: { فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ } { أأنتم أشدُّ خَلْقاً } أي: أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم { أم السماءُ } أي: أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها، وهذا كقوله:أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى } [يَس:81]. ثم بيَّن كيفية خلقها فقال: { بناها } أي: الله، وفي عدم ذكر الفاعل، فيه وفيما عطف عليه، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى. { رَفَعَ سَمْكَها } أي: أعلى سقفها من الأرض، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فسوّاها } أي: فعدّلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو: تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم، من قولهم: سوَّى فلان أمره: إذا أصلحه. { وأغْطشَ ليلها } أي: أظلمه، ويُقال: غطش الليل وأغطشه الله، كما يُقال: ظلُم وأظلمه الله. { وأخرج ضحاها } أي: أبرز نهارها، عبّر عنه بالضُحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان. ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها بواسطة الشمس، أي: أبرز ضوء شمسها. والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها. { والأرضَ بعد ذلك دحاها } أي: بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسّر الدحو فقال: { أخرج منها ماءها } بتفجير عيونها وإجراء أنهارها، { ومرعاها } كلأها، وهو ما ترعاه البهائم، وهو في الأصل: موضع الرعي، أو: مصدر ميمي بمعنى المفعول، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها، أو تكملة له، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط، بل لا بد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً، أو: لأنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور، أو بدونه عند الكوفيين. { والجبالَ أرساها } أي: أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل. وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده. ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب. وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها، كما يروى عن الحسن: من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفِهْر، عليه دخان ملزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3