الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } * { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } * { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيـۤئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } * { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ٱرْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } * { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } * { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّ المتقين } الكفرَ والتكذيب { في ظلالٍ } ممدودة { وعيون } جارية { وفواكهَ مما يشتهون } مما يستلذون من فنون الترفُّه وأنواع التنعُّم. يقال لهم: { كُلوا واشربوا } ، فالجملة: حال من الضمير المستقر في الظرف، أي: هم يستقرُّون في ظلالٍ مقولاً لهم: { كلوا واشربوا هنيئاً } لا تباعة عليه ولا عتاب، { بما كنتم تعملون } في الدنيا من الأعمال الصالحة، { إنَّا كذلك } أي: مثل هذا الجزاء العظيم { نجزي المحسنينَ } في عقائدهم وأعمالهم، فأحسِنوا تنالوا مثل هذا أو أعظم. { ويل يومئذ للمكذبين } بهذا، حيث نال المؤمنون هذا الجزاء الجزيل، وبقوا هم في العذاب المخلَّد الوبيل. ويُقال لهم في الدنيا على وجه التحذير: { كُلوا وتمتعوا } كقوله:اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت:40] أو: في الآخرة، أي: الويل ثابت لهم، مقولاً لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا، بما جَنوا على أنفسهم من إيثارهم المتاع الفاني عن قريب على التمتُّع الخالد، أي: تمتّعوا زمناً { قليلاً } أو متاعاً قليلاً، لأنَّ متاع الدنيا كله قليل، { إِنكم مجرمون } أي: كافرون، أي: إنَّ كلّ مجرم يأكل ويتمتّع أياماً قلائل، ثم يبقى في الهلاك الدائم. { ويل يومئذ للمكذِّبين } ، زيادة توبيخ وتقريع، أو: ويل يومئذ للمكذِّبين الذين كذَّبوا. { وإِذا قيل لهم اركعوا } أي: أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا للّه، بقبول وحيه واتباع رسوله، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة، { لا يركعون } لا يخشعون ولا يقبلون ذلك، ويُصرون على ماهم عليه من الاستكبار. وقيل: وإذا أُمروا بالصلاة لا يفعلون، إذ رُوي أنها نزلت حين أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، فإنها خسّة علينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " وقيل: هو يوم القيامة، حين يُدْعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون. { ويل يومئذ للمكذِّبين } بأمره ونهيه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع. { فبأيِّ حديث بعده } أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين، وأخبار النشأتين، على نمط بديع، ولفظ بليغ مُعجِز، مؤسس على حُجج قاطعة، وأنوار ساطعة، فإذا لم يؤمنوا به { فبأي حديثٍ بعده يؤمنون } أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن، مع أنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، من بين الكتب السماوية، فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ فينبغي للقارىء أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في ظلال التقريب، وبرد التسليم، ونسيم الوصال، فما أطيب نسيمهم وما ألذ مشربهم، كما قال الشاعر:
يا نسيمَ القُرب ما أطيبكا ذاق طعم الأُنس مَن حَلَّ بكا أيُّ عيشٍ لأناس قُرِّبوا قد سُقوا بالقدس من مشربكا   
{ وعيون } أي: مناهل الشرب من رحيق الوجدان، وفواكه النظر، مما يشتهون، أي: وقت يشتهون، كُلوا من رزق أرواحكم وأسراركم، وهو الترقي في معاريج العرفان، وأشربوا من رحيق أذواقكم، هنيئاً بما كنتم تعملون أيام مجاهدتكم، إنَّا كذلك نجزي المحسنين المتقين علومَهم وأعمالَهم.

السابقالتالي
2