الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } * { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } * { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }

يقول الحق جلّ جلاله: { هل أتى على الإِنسان } ، والاستفهام للتقرير والتعريف، أو بمعنى " قد " ، أي: قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ { حِينٌ من الدهر } أي: طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد { لم يكن شيئاً مذكوراً } بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً، كالعنصر والنطفة وغير ذلك. والجملة المنفية: حال من الإنسان، أي: مضى عليه زمان غير مذكور، أو صفة لـ " حين " على حذف العائد، أي: لم يكن فيه شيئاً، والمراد بالإنسان: الجنس. والإظهار في قوله: { إِنَّا خلقنا الإنسانَ } لزيادة التقرير، أو: يراد آدم عليه السلام، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة، فقد أتى عليه حين من الدهر، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، وفي رواية الضحاك عنه: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة، ثم من صلصال، فأقام أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. هـ. قلت: جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء، ويقال: كان على باب الجنة، تمر به الملائكة وتتعجب منه، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض، ثم رُفع إلى السماء، القدرة صالحة. والله تعالى أعلم بما كان. وقال بعضهم: المراد بالإنسان الأول: آدم عليه السلام، وبالثاني: أولاده، أي: خلقنا نسل الإنسان { من نُطفةٍ أمشاجٍ } أي: أخلاط من: مشجت الشيء: إذا خلطته ومزجته، وصف به النطفة لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، ولكل منهما أوصاف مختلفة، من اللون، والرقّة، والغلظ، وخواص متباينة، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ، فيه قوة العصب، وماء المرأة أصفر رقيق، فيه قوة الانعقاد، وتخلّق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة. قال القرطبي: وقد رُوي هذا مرفوعاً. وقيل: إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا علا ماء المرأة أشبهها. وقيل: إذا سبق أحدهما فالشبه له. وقيل: " أمشاج " مفرد غير جمع، كبَرْمة أعشار، وثوب أخلاق. وقيل: أمشاج: ألوان وأطوار فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. هـ. { نبتليهِ } حال، أي: خلقناه مبتلين له، أي: مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل، { فجعلناه سميعاً بصيراً } ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية، ومشاهدة الآيات التكوينية، فهو كالمسبب عن الابتلاء، فلذلك عطف على الخلق بالفاء، ورتّب عليه قوله: { إِنَّا هديناه السبيلَ } بيَّنَّا له الطريق، بإنزال الآيات، ونصب الأدلة العقلية والسمعية، { إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً }: حال من مفعول { هديناه } ، أي: مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية، في حالتي الشكر والكفر، أي: إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين، فإن شكر نفع نفسه، وإن كفر رجع وبال كفره عليه، أو: حال من " السبيل " ، أي: عرفناه السبيل، إمّا سبيلاً شاكراً، وإمّا سبيلاً كفوراً.

السابقالتالي
2