الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ } * { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ } * { وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ } * { وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } * { إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } * { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } * { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { وما جعلنا أصحابَ النار } أي: خزنتها، المدبّرين لها، القائمين بتعذيب أهلها، { إِلاَّ ملائكةً } لأنهم خلاف جنس المعذّبين، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً، فللواحد منهم قوة الثقلين، ونَعَتهم صلى الله عليه وسلم فقال: " كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي، يَجرُّون أشعَارَهم، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ فَيَرْمِيهم في النَّارِ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم " وفي رواية: " بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ " وفي رواية عن كعب: " مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة " وفي حديث آخر: " ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ " وعن كعب: " يؤمر بالرجل إلى النار، فيبتدره مائة ألف ملك " قال القرطبي: المراد بقوله: { عليها تسعة عشر } رؤساؤهم، وأما جملة الخزنة فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى. انظر البدور السافرة. رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: { عليها تسعة عشر } قال أبو جهل: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، وأنتم ألدَّهم، أي: الشجعان؟ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، اكفوني أنتم اثنين، فنزلت الآية، أي: وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون. { وما جعلنا عِدَّتهم } تسعة عشر { إِلا فتنةً } أي: ابتلاء واختباراً { للذين كفروا } حتى قال أبو جهل ما قال، أي: وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم، فعبّر بالأثر عن المؤثّر، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة بل جعله في القرآن أيضاً كذلك، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيماناً. انظر أبا السعود. وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد ـ مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل: أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة منهم يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد، والآخر خازن جهنّم، وهو مالك، وهو الأكبر. وقيل: في النار تسعة عشر دركاً، قد سلّط على كل درك مَلك، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب، وعلى كل لون ملك موكّل، وقيل غير ذلك. { لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب } ، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله، وهو متعلق بالجعل المذكور، أي: جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، وصِدْقِ القرآن، لموافقته لِما في كتبهم، { ويزداد الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { إِيماناً } لتصديقهم بذلك، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل، أو: يزداد إيمانهم تيقُّناً لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم، { ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون } ، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب، حيث لم يقل: ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان، وكم بينهما؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك.

السابقالتالي
2 3