الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } * { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } * { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } * { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } * { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } * { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } * { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } * { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } * { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً }

يقول الحق جلّ جلاله: { قال } نوح شاكياً إلى الله تعالى: { رَبِّ إِني دعوتُ قومي } إلى الإيمان والطاعة { ليلاً ونهاراً } دائماً بلا فتور ولا توان، { فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً } مما دعوتهم إليه، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار، وهو كقوله:وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا } [التوبة:125]، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له: احذر هذا، فلا يعرنّك، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. هـ. { وإِني كلما دعوتُهم } إلى الإيمان بك { لتغفرَ لهم } أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فاكتفى بذكر المسبَّب، { جعلوا أصابعَهم في آذانهم } أي: سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي، { واستَغْشوا ثيابَهُم } أي: وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني، كراهة النظر إلى وجه مَن ينصحهم في دين الله، { وأصَرُّوا } أقاموا على كفرهم { واسْتَكْبَروا استكباراً } أي: تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم. { ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً } أي: مجاهراً، فيكون حالاً، أو: مصدر " دعوت " ، كقعد القرفصاء لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني: أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. { ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً } أي: جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت، فرداً وجماعة. والحاصل: أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف، يبتدىء بالأهون فالأشد، افتتح بالمناصحة بالسر، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و " ثم " تدل على تباعد الأحوال لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما. { فقلتُ استغفِروا ربكم } بالتوبة من الكفر والمعاصي فالاستغفار: طلب المغفرة، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب، { إِنه كان غفَّاراً } لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه، { يُرسل السماءَ } بالمطر { عليكم مِدراراً } كثير الدُّرور، أي: البروز، و " مِفعال " يستوي فيه المذكر والمؤنث، { ويُمددكم بأموال وبنينَ } أي: يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم، { ويجعل لكم جنات } بساتين { ويجعل لكم أنهاراً } جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد، فحرّكوا بهذا على الإيمان، وقيل: لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم نساءهم أربعين سنة، أو سبعين، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فمُطر فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء، ثم قرأ الآية.

السابقالتالي
2