الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ ٱلْغَافِلِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه: { واذكر ربك في نفسك } أي: في قلبك بحركة لسان القلب، أو في نفسك سرًا بحركة لسان الحس، { تضرُّعًا وخِيفَةً } أي: متضرعًا وخائفًا، { ودونَ الجهر من القول } أي: متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا، فكانوا يسبون الذاكر والمذكور، ولما هاجر المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى المدينة، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر. فالآية منسوخة. انظر: الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي. فقد أجاب عن الآية بأجوبة. فقوله: { بالغُدوِّ والآصال } أي: في الصباح والعشي، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث، وحين تريد النوم الشبيه بالموت، وقيل: المراد صلاةَ العصر والصبح، وقيل: صلاةَ المسلمين، قبل فرض الخمس، وقيل: للاستغراق، وإنما خص الوقتين لأنهما محل الاشتغال، فأولى غيرهما. { ولا تكن من الغافلين } عن ذكر الله. { إن الذين عند ربك } يعني ملائكة الملأ الأعلى، { لا يستكبرون عن عبادته ويُسبحونه } يُنزهونه عما لا يليق به، { وله يسجدون } أي: يخصونه بالعبادة والتذلل، لا يشركون به غيره، وهو تعريض بالكفار، وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى، ولذلك شرع السجود عند قراءتها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قَرَأَ ابنُ آدمَ السجدةَ، فَسَجَدَ، اعتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلهُ، أمِرَ هذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فعصَيت فَلِي النارُ ". الإشارة: اعلم أن الذكر على خمسة أقسام: ذكر اللسان فقط لعوام المسلمين، وذكر اللسان مع القلب، لخواص الصالحين وأول المتوجهين، وذكر القلب فقط للأقوياء من السائرين، وذكر الروح لخواص أهل الفناء من المُوحدين، وذكر السر لأهل الشهود والعيان من المتمكنين، وفي قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين، فيترقى من مقام، إلى مقام، حتى يبلغ إلى ذكر السر، فيكون ذكر اللسان في حقه غفلة. وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه: الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره لأن ذكره سواه. وفيه أيضًا قال الغزالي: ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني سرِّي، وقَلْبِي، وَرُوحِي، عِنْدَ ذِكْرَاكَ حَتَّى كَأنَّ رَقِيبًا مِنْكَ يهْتِفُ بِي: إِيَّاكِ، وَيْحَكَ، والتَّذكَارَ إيَاكِ أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ   
وقوله تعالى: { إِن الذين عند ربك }... الآية، قال القشيري: أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية كي لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواص عباده، يلقاهم بخصائص عين الجمع، ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق، لئلا يُخِلّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة. هـ.