يقول الحقّ جلّ جلاله: { ولقد خلقناكم } أي: خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور، { ثم صوّرناكم } أي: صوّرنا خلقة أبيكم آدم. نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره لأنه المادة الأصلية، أي: ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } تعظيمًا له، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم، واختبارًا له ليظهر من يخضع ممن لم يخضع، { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } لآدم. { قال } له الحق تبارك وتعالى: { ما منعك ألا تسجد } أي: تسجد، فلا: زائدة، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبَّخ عليه ترك السجود، وقيل: الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه، فكأنه قال: ما اضطرك إلى ترك السجود { إذ أمرتك }. وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور، فأجاب بقوله: { قال أنا خيرٌ منه } ، أي: المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسُن أن يؤمر به، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود. ثم بيَّن وجه الأفضلية، فقال: { خلقتني من نار وخلقته من طين } ، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين، وقد غلط في ذلك، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات، لا باعتبار العنصر والمادة فقط، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه. قال البيضاوي: رأى الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله تعالى:{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [صَ:75] أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله تعالى: { ونفخت فيه من روحي } وباعتبار الغاية، وهو ملاكه، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما تبين لهم أنه أعلم منهم، وأنه له خواصًا ليست لغيره. هـ. ولما تبين عناده قال له تعالى: { فاهبط منها } أي: من السماء أو من الجنة، { فما يكونُ لك } أي: فما يصح لك { أن تتكبَّر فيها } وتعصى فإنها موطن الخاشع المطيع، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه، { فاخرج إنك من الصاغرين } أي: ممن أهانه الله لتكبره. قال صلى الله عليه وسلم: " مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله ". ولما تحقق إبليس أنه مطرود، سأل الإمهال فقال: { أنظرني } أي: أخرني، { إلى يوم يُبعثون } فلا تمتني، ولا تعجل عقوبتي، { قال إنك من المنظرين } يقتضي أنه أجابه إلى ما سأل، لكنه محمول على ما في الآية الأخرى: