الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } * { أَمْ عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } * { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ } * { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِٱلْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } * { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { فَذَرْني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث } أي: القرآن، والمعنى: كِلّ أمره لي، وخلِّ بيني وبينه، فإني أكفيك أمره لأني عليم بما يستحق من العذاب، ومطيق له. والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، أي: إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرْني ومَن يُكَذِّب بالقرآن، وتوكل عليّ في الانتقام منه، { سنستدرجُهم } سنُدْنيهم من العذاب درجة درجة، يقال: استدرجه إلى كذا، أي: استنزله إليه درجة بدرجة حتى يورطه فيه، واستدراجه تعالى للعصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلون رزقَ الله ذريعة إلى معاصيه. والجملة استئناف مسوق لبيان التعذيب المستفاد من الأمر إجمالاً في قوله: { فذرني } والضمير لـ " من " ، والجمع باعتبار معناها، كما أنَّ الإفراد في " يُكذِّب " باعتبار لفظها، أي: سنسوقهم إلى العذاب { من حيث لا يعلمون } أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، قيل: كلما جدّدوا معصيةً جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت الله تعالى يُنعم على عبد، وهو مقيم على معصية، فاعلم أنه مُستدرج " ثم تلا هذه الآية. { وأُمْلِي لهم } وأمهلهم ليزدادوا إثماً، وهم يظنون أنه لإرادة الخير بهم، { إِنَّ كيدي متينٌ } قوي شديد، لا يوقف عليه، فسمّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سمّاه استدراجاً لكونه في صورة الكيد، حيث كان سبباً للهلاك. والحاصل: أن معنى الكيد والمكر والاستدراج، هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يُسمى الله كائداً وماكراً ومُسْتَدْرِجاً لعدم التوقيف، وأسماؤه تعالى توقيفيه. { أم تسألهم } على تبليغ الرسالة { أجراً } دنيوياً { فهم من مَّغْرَمٍ } أي: من أجل غرامة { مثقَلُون } مكلفون حملاً ثقيلاً، فيعرضون عنك لأجل ما تكلفهم به؟ والاستفهام بمعنى النهي. { أم عندهم الغيب } أي: اللوح المحفوظ، أو علم المغيبات، { فهم يكتبون } منه ما يحكمون به، فيستغنون عن علمه؟ { فاصبرْ لحُكم ربك } أي: ما حكم به، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم لأنهم وإن أُمهلوا لم يُهمَلوا، { ولا تكن كصاحِب الحوت } يونس عليه السلام في العَجَلة والغضب على القوم حتى ابتلي ببلائه، { إِذ نادَى } في بطن الحوت { وهو مكظوم } مملوء غيظاً. والجملة حال من ضمير " نادى " وعليه يدور النهي، لا على النداءِ فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادَى، و " إذ " منصوب بمضاف محذوف، أي: لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي: لا يوجد منك ما وُجد منه من الضجر والمغاضبة فتُبتلى ببلائه، { لولا أن تدارَكه نعمةٌ } رحمة { من ربه } أي: لولا أنَّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه، وقبول عذره، أو: لتوفيقه للتوبة وقبولها منه، { لنُبذ بالعراءِ } بالأرض الخالية من الأشجار { وهو مذموم } معاتَب بعجلته، لكنه رُحم، فنُبذ غير مذموم، بل مَرْضِي مقبول.

السابقالتالي
2