الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } * { أَفَنَجْعَلُ ٱلْمُسْلِمِينَ كَٱلْمُجْرِمِينَ } * { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } * { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ } * { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } * { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } * { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } * { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } * { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } * { خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ وَهُمْ سَٰلِمُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { إِنَّ للمتقين عند ربهم } في الآخرة، أو: في جوار القدس { جناتِ النعيم } أي: جنات ليس فيها إلاَّ التنعُّم الخالص عن شائبة ما ينقصه من المكدّرات، وخوف الزوال، بخلاف جنات الدنيا ونعيمها، وقال بعضهم: لهم جنات النعيم، مِن صفتها: أنَّ العبد فيها مُقيم، والنبي فيها نديم، والمضيف فيها الكريم، والثواب فيها عظيم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم. هـ. { أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين } ، تقرير لِما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم، ورَدٌّ لما يقوله الكفرة عند سماعهم لحديث الآخرة، وما أعدّ للمسلمين، فإنهم كانوا يقولون: إن صحّ أنَّا نُبعث كما يزعم محمد ومَن معه، لم يكن حالنا وحالهم إلاَّ مثل ما هي في الدنيا، لم يزيدوا علينا، ولم يفضلونا، فرَدّ الله عليهم. والهمزة للإنكار، والعطف على مُقدّر يقتضيه المقام، أي: أنحِيفُ في الحُكم، فنجعل المسلمين الذين كابدوا مشاقَ الطاعات، وترك المخالفات، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد والتشديد: { ما لكم كيف تحكمون } هذا الحُكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم، تحكمون فيه كيف شئتم! وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل. { أم لكم كتاب } نازل من السماء { فيه تدرُسُون } تقرؤون في ذلك الكتاب، { إنَّ لكم فيه } أي: في ذلك الكتاب { لَمَا تخيَّرون } أي: إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم! والأصل: تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون، بفتح " أنّ " لأنه مدروس، لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه، كقوله:وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي ٱلأَخِرِينَ سَلَـٰم عَلَى نُوحٍ فِي ٱلْعَالَمِين } [الصافات:78، 79] أي: تركنا عليه السلام على قولٍ. وتخيّر الشيء واختاره: أخذ خيره. { أم لكم أَيْمَانٌ علينا } أي: عهود مؤكدة بالأيمان { بالغةٌ } متناهية في التوكيد { إِلى يوم القيامة } متعلق بالمقدّر في { لكم } أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو: بـ " بالغة " ، أي: تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم، { إِنَّ لكم لَمَا تحكمون } به لأنفسكم، وهو جواب القسم، لأنَّ معنى { أم لكم أَيمان علينا }: أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون { سَلْهُمْ } أي: المشركين، وهو تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، أي: سَلْهم مبكتاً لهم: { أَيُّهُم بذلك } الحكم { زعيمٌ } كفيل بأنه لا بد أن يكون ذلك. { أم لهم شركاءُ } أي: ناس يُشاركونهم في هذا القول، ويذهبون مذهبهم فيه؟ { فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين } في دعواهم، إذ لا أقل من التقليد فيه، يعني: أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم بعد عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم.

السابقالتالي
2 3