الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ } * { ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ } * { ثُمَّ ٱرجِعِ ٱلبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ ٱلبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } * { وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلْنَٰهَا رُجُوماً لِّلشَّيَٰطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { تباركَ } أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة: السمو والزيادة، حسية أو عقلية، وكثرة الخير ودوامه، والمعنى الأول أنسب للمقام، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ، كالتكثُّر ونحوه، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات، أي: تعالى بالذات عن كل ما سواه. { الذي بيده المُلك } أي: بيده التصرُّف التام والاستيلا ء على كل موجود، وهو مالك المُلك، يُؤتيه مَن يشاء، وينزعه عمن يشاء، واليد: مجاز عن القدرة التامة، والاستيلاء الكامل. { وهو على كل شيءٍ } من المقدورات، أو من الإنعام والانتقام { قديرٌ } مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة. والجملة: معطوفة على الصلة، مقرِّرة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك في إيجاد أعيان الأشياء المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية. ولو اقتصر على قوله: { بيده الملك } لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط. ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله: { الذي خلق الموتَ والحياةَ } أي: موتكم وحياتكم أيها المكلّفون. ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه. والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس: أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى " فوارد على منهاج التمثيل والتصوير، ويجوز أن يكون حقيقة، إذ القدرة صالحة. وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة، المشار إليه بقوله: { ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا } أي: خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً فيُجازيكم على مراتب متفاوتة، حسب طبقات علومكم وأعمالكم فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح، ولذلك فسَّره صلى الله عليه وسلم بقوله: " أيكم أحسن عقلاً، وأردع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله " ، وفي رواية: " أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم له خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، وإن كانوا أقلّكم تطوُّعاً " وقال ابن عباس وغيره: أيكم أزهد في الدنيا. قال القشيري: كيف تكونوا في الصبر في المحنة، والشكر عند المنّة. وقال النسفي: { أيكم أحسن عملاً }: أخلصه وأصوبه، فالخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السُنَّة والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلّط عليكم الموت، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء، الذي لا بدّ منه، ولمّا قدّم الموت ـ الذي هو أثر صفة القهر ـ على الحياة ـ التي هي أثر صفة اللطف ـ قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله: { وهو العزيزُ }: الغالب، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل، { الغفور } الستور، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل.

السابقالتالي
2 3