الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }

يقول الحق جلّ جلاله: { يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض } أي: يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه، قال القشيري: المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة. هـ. { له الملكُ وله الحمدُ } لا لغيره إذ هو المبدىء لكلّ شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه. فتقديم الظرفين للاختصاص. { وهو على كل شيءٍ قديرٌ } لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء. { هو الذي خَلَقَكُم } خلقاً بديعاً، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك { فمنكم كافرٌ } أي: فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له، على خلاف ما تستدعيه خِلقته، { ومنكم مؤمن } مختار للإيمان، كاسباً له، على حسب ما تقتضيه خِلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه، بل تشعّبتم شعباً، وتفرقتم فِرَقاً. وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ. قال القشيري: { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } أي: في سابق علمه سمَّاه كافراً، لعلمه أنه يكفر، وكذلك المؤمن. هـ. قال أبو السعود: حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام، فانظره. { واللهُ بما تعملون بصير } فيُجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان. { خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق } بالحكمة البالغة، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم، { وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم } حيث أنشأكم في أحسن تقويم، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة. قال النسفي: أي: خلقكم أحسن الحيوان كلّه، وأبهاه، بدليل: أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومِن حُسن صورته: أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ، ومَن كان دميماً، مشوّه الصورة، سمج الخلقة، فلا سماجة ثمَّ، ولكن الحسن على طبقات، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن. وقال الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. هـ. قلت: وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته، حيث قال:
وكُلُّ قبيحٍ إن نَسَبْتِ لحُسْنِه أتتك معاني الحُسْنِ فيه تُسارعُ يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه فما ثَمَّ نُقصانٌ. ولا ثَمَّ بَاشِعُ   
{ وإِليه المصيرُ } في النشأة الأخرى، لا إلى غيره، فأحسِنوا سرائركم، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له. { يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون } أي: ما تُسرونه فيما بينكم، وما تُظهرونه من الأمور، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد، وتشديد لهما.

السابقالتالي
2