الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }

يقول الحقّ جلَ جلاله: في الرد على اليهود: { وما قدروا الله حق قدره } أي: ما عَرفُوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد بالوحي وغيره، إذ لو عرفوه لَهابُوا أن يُنكروا بعثة الرسل، أو ما جَسَرُوا على هذه المقالة، أو ما عظموه حق تعظيمه. حيث كذَّبوا رسله وأنكروا أن يكون أنزل عليهم كتابًا، إذ لو عظِّموه حق تعظيمه لصدَّقوا الرسول الوارد عنه، وهو معنى قوله: { إذ قالوا ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء } ، والقائلون هم اليهود، كفنحاص ومالك بن الصيف وغيرهما، قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فردَّ الله عليهم بما لا بدَّ لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى فقال: { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهُدًى للناس } ، فالنور للبواطن، والهداية للظواهر، { تجعلونه } أي: التوارة، { قراطيسَ } أي: تُجَزِّؤُونه أجزاء متفرقة، ما وافقَ أهواءكم أظهرتموه وكتبتموه في ورقات متفرقة، وما خالف أهواءكم كتمتموه وأخفيتموه. رُوِي أنَّ مَالك بنَ الصَّيفِ قاله، لَمّا أغضَبَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أُنشدُكُ الله الذي أنزَلَ التَّورَاة عَلَى مُوسَى، هَل تجِد فيها أنَّ الله يبغضَ الحَبرَ السَّمِين، فَأنتَ الحَبرُ السّمِين " ، فغَضب، وقال: ما أنزَلَ الله علَى بَشَرٍ مِن شَيء، فَرَّدّ الله عَلَيهِ بِما تقَّدم. وقيل: القائلون ذلك: المشركون، وإلزامهُم بإنزال التوراة لأنه كان مشهورًا عندهم يُقِرُّون به، ولذلك قالوا:أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهدى مِنْهُمْ } [الأنعَام:157]. { وعُلِّمتُم } على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } ، زيادة على ما في التوراة وبيانًا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم. ونظيرهُ:إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقَصُّ عَلَى بَني إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الِّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النَّمل:76] أو: وعُلِّمتم من التوراة ما لم تكونوا تعلَّمتم أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله، وإن كان الخطاب لقريش فالذي عُلِّموه: ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من القَصص والأخبار. ثم أجاب عن استفهامه بقوله: { قُل اللهُ } أي: أنزلَه الله، أو الله أنزله. قال البيضاوي: أمره بأن يجيب عنهم إشعارًا بأن الجواب بهذا مُتَعيّن لا يمكن غيرُه، وتنبيهًا على أنهم بُهتُوا بأنهم لا يقدرون على الجواب هـ. { ثم ذَرهُم في خوضهم يلعبون } في أباطيلهم. فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة، وأصلُ الخَوض في الماء، ثم أستُعير للمعاني المُشكِلة، وللقلوب المتفرقة في أودية الخواطر. الإشارة: يُفهَم من الآية أنَّ من أقَرَّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل، فقد قَدَر الله حق قدره وعظَّمه حق تعظيمه. وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله وإلاَّ فتعظيم الحق حق تعظيمه، ومعرفته حق معرفته، لا يمكن انتهاؤها، ولا الوصول إلى عشر العشر منها.

السابقالتالي
2