الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ }

قلت: { كم }: خبرية، مفعول { أهلكنا } ، أي: كثيرًا أهلكنا من القرون، والقرن مدة من الزمان تهلك أشياخُها وتقوم أطفالُها، واخُتلف في حدِّها، قيل: مائة، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون، وقيل القرن: أهل زمان فيه نبي أو فائق في العلم، قلَّت المدةُ أو كثُرَت، مشتق من قرين الرجل. والمطر المِدرار هو الغزير، وهي من أمثلة المبالغة، كمِذكار وميناث. يقول الحقّ جلّ جلاله: { ألم يروا } ببصائرهم رؤيةَ اعتبار، { كم أهلكنا من قبلهم } من أهل عصر { مكنّاهم في الأرض } أي: جعلناهم متمكّنين فيها بالقرار والسُّكنَى والطمأنينة فيها، أو أعطيناهم من القوة والآلات ما تمكَّنُوا بها من أنواع التصرف فيها فقد { مكّناهم ما لم نمكّن لكم } يا أهل مكة، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم، أو أعطيناهم من القوة والسَّعة في المال والاستظهار على الناس بالعُدَّة والعدَد وتَهَيُّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم. { وأرسلنا السماء } أي: المطر أو السحاب { عليهم مِدرَاراً } أي: مِعزارًا على قدر المنفعة بحسب الحاجة، { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي: أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم، فعاشوا في الخصب والريف، بين الأنهار والثمار، فعَصوا وطَغوا وبَطرُوا النعمة، فلم يُغنِ ذلك عنهم شيئًا. { فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } أي: أحدثنا، { من بعدهم قرنًا آخرين } بدلاً منهم. والمعنى: أنه تعالى كما قدَّر أن يُهلك مَن تقدم مِن القُرون، بعد أن مكَّنهم في البلاد واستظهروا على العباد، كعاد وثمود، وأنشأ بعدهم آخرين عمَّر بهم بلاده، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم. الإشارة: النظر والاعتبار يُوجب للقلب الرقَّة والانكسار. وهي عبادة كبرى عند العُباد والزهاد. أُولي العزم والاجتهاد. وفوقها: فكرة الشهود والعيان، وهي الفكرة التي تطوى وجود الأكوان. وتُغيب الأواني بظهور المعاني، أو تريها حاملة لها قائمة بها، فالأُولى فكرة تصديق وإيمان، والثانية فكرة شُهُود وعِيان. وبالله التوفيق. ثم ذكَر عِنادهم، وأنهم لا تنفع فيهم المعجزة، فقال: { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ }.