الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } * { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } * { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } * { فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: تخويفًا لهذه الأمة: { ولقد أرسلنا إلى أمم } مضت { من قبلك } رسلاً فأنذروهم، فكذبوا وكفروا { فأخذناهم بالبأساء } أي: الشدة، كالقحط والجوع، { والضراء } كالأمراض والموت والفتن، تخويفًا لهم { لعلهم يتضرعون } أي: يتذللون ويتوبون من ذنوبهم، فلم يفعلوا، { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } أي: هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد، { ولكن قست قلوبهم } أي: صلُبت ولم تلن، { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } فصرَفهم عن التضرع، أي: لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم. { فلما نسوا ما ذكروا به } أي: تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء، ولم ينزجروا، { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من أنواع الرزق وضروب النعم، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة، أو مكرًا بهم، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " مُكر بالقوم ورب الكعبة " { حتى إذا فرحوا } أي: أعجبوا { بما أوتوا } من النعم، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه، { أخذناهم بغتة } أي: فجأة { فإذا هم مبسلون } مُتحيرون آيسون من كل خير، { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي: قطع آخرهم، ولم يبق منهم أحد، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية، { والحمد لله رب العالمين } على إهلاكهم، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة، يحق أن يحمد عليها من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم. وبالله التوفيق. الإشارة: المقصود من إظهار النقم الظاهرة ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة، فإن الأشياء كامنة في أضدادها، النعمة في النقمة، والرخاء في الشدة، والعز في الذل، والجمال في الجلال، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل. " أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي ". فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة، تُوجب نعمًا غزيرة، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا. فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها: ما يكون أدبًا وكفارة، ومنها: زيادة وترقية، ومنها: ما يكون عقوبة وطردًا، فإن صحبها التيقظ والتوبة، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب، وإن صحبه الرضى والتسليم، ولم يقع ما يوجب الأدب، كان ترقية وزيادة، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا. أعاذنا الله من موارد النقم. ثم احتج عليهم بوجه آخر، فقال: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ }.