الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { وقالوا } ـ حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله ـ: { لولا نُزل عليه آية من ربه } تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله، وعلى أنه رسول من عند الله، { قل } لهم: { إن الله قادر على أن ينزل آية } خارقة للعوائد، يرونها عيانًا، وتضطرهم إلى الإيمان، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن إنزالها وبالٌ عليهم لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب، أو: لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا؟. وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة، منها: ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات لأنهم قد أتاهم بآيات، وتحصيل الحاصل لا ينبغي، كقوله:قّدْ بَيَّنَّا الأَيَاتِ } [البَقَرَة:118 } ،أَوَلَمْ يَكُفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [العنكبوت:51]، ومنها: ما يقتضي الإعراض عنهم لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته. ويحتمل أن يكون منه قوله هنا: { قل إن الله قادر... } الآية. فإن قيل: كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة، كانشقاق القمر، وإخبارهم بالغيب، وغير ذلك؟ فالجواب: أنهم لم يعتدوا بما رأوا لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر، وهو خلاف الحكمة. ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره، فقال: { وما من دابة } تَدِبُّ { في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } في الهواء، { إلا أمم أمثالكم } مقدرة أرزاقها، محدودة آجالها، معدودة أجناسها وأصنافها، محفوظة ذواتها، معلومة أماكنها، كلها في قبضة الحق، وتحت قدرته ومشيئته، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره، فيدل على قدرته على أن ينزل آية، وعلى بعثهم وحشرهم لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم، كما قال تعالى: { ما فرطنا في الكتاب } أي: اللوح المحفوظ، { من شيء } فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد، ظاهرًا ولا باطنًا، أو القرآن فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً، حتى قال بعض السلف: لو ضَاع لي عِقالٌ لوجدتُه في كِتَابِ الله أي: باعتبار العموم وأصول المسائل. قال تعالى: { ثم إلى ربهم يُحشرون } أي: الأمم كلها، فيُنصف بعضها من بعض. كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كُوني ترابًا، فذلك حيث يقول الكافر:يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } [النّبَأ:40]. وفي المسألة اضطراب بين العلماء، والصحيح هو حشرها، كما قال تعالى:وَإِذّا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التّكوير:5]، وعن ابن عباس رضي الله عنه: حشرها موتها. والله تعالى أعلم. الإشارة: قد تقدم مرارًا أن طلب الكرامات من الأولياء: لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق. وأكمل الكرامات: الاستقامة على التوحيد في الباطن، وتحقيق العبودية في الظاهر. وبالله التوفيق. ثم قبَّح شأن أهل التكذيب، فقال: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ }.