الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } * { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

قلت: { مَنْ }: لفظها مفرد ومعناها جمع، فيجوز في الضمير مراعاة اللفظ فيُفرد، كقوله هنا: { ومنهم من يستمع إليك } ، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع، كقوله في يونس:وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [يُونس:42]، والأكِنَّة: الأغطِية، جمع كنان، و { أن يفقهوه }: مفعول له أي: كراهية أن يفقهوه، و { حتى }: غاية، أي: انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك، والجملة بعدها: إمَّا في محل جر بها ويجادلونك جواب لها، و { يقول }: تبيين لها، وإما لا محل لها فتكون ابتدائية. والأساطير: جمع أسطورة، أو أسطار جمع سَطر، فيكون جمع الجمع. يقول الحقّ جلّ جلاله: ومن الكفار { من يستمع إليك } حين تقرأ القرآن، والمراد: أبو سفيان والوليد والنضر وعُتبة وشَيبَة وأبو جهل وأضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ، فقالوا للنضر: ما تقول؟ فقال: والذي جعلها بيننا وبينه ما أدري ما يقول، إلا أنه يحرك لسانه، ويقول أساطير الأولين، مثل ما جئتُكم به. قال السُّهَيلي: حيث ما ورد في القرآن: " أساطير الأولين " فإنَّ قائلها هو النضر بن الحارث، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلَّم أخبار ملوكِهم، فكان يقول: حديثي أحسنُ من حديث محمد، فنزلت فيه وفي أصحابه. { وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً } أي: أغطية كراهة { أن يفقهوه } لما سبق لهم من الشقاء، { و } جعلنا { في آذانهم وقرًا } أي: ثقلاً وصمَمًا فلا يسمعون معانيه، ولا يتدبرونها. { وإن يَرَوا كلَّ آية } ومعجزة { لا يؤمنوا بها } لفرط عنادهم، واستحكام التقليد فيهم، وسبقِ الشقاء لهم، فلا يزال التكذيب والشك يعظُم فيهم { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } أي: حتى ينتهي بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك { يقول الذين كفروا إن } أي: ما { هذا إلا أساطير } أي: أكاذيب { الأولين } ، فإنَّ جَعلَ أصدق الحديث خرافاتِ الأولين غايةٌ التكذيب. { وهم } أيضًا { يَنهون عنه } أي: ينهون الناس عن القرآن، أو عن الرسول والإيمان به، { وينأون عنه } أي: يبعدون عنه، فقد ضلوا وأضلوا، أو يَنهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه فلا يؤمنون، كأبي طالب ومن كان معه، يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة. وفي { ينهون } ضربٌ من ضروب التجنيس من علم البلاغة. قال تعالى: { وإن } أي: ما { يُهلكون } بذلك { إلا أنفسهم وما يشعرون } أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم. الإشارة: اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام الله والتمتع بحلاوته أربعةُ حُجُب: الأول: حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام. والثاني: حجاب المعاصي والذنوب، وينخرق بالتوبة والانقلاع. والثالث: حجاب الانهماك في الحظوظ والشهوات واتباع الهوى، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة. والرابع: حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعني، والاشتغال بالبطالة، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق، والانقطاع إلى الله بكليته، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب، تمتع بحلاوة القرآن ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة.

السابقالتالي
2