الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } * { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }

قلت: { الجن }: مفعول أول لجعلوا، و { شركاء }: مفعول ثانٍ، وقدّم لاستعظام الإشراك، أو { شركاء }: مفعول أول، و { لله }: في موضع المفعول الثاني، و { الجن }: بدل من شركاء، وجملة { خلقهم }: حال، و { بديع }: خبر عن مضمر، أو مبتدأ وجملة { أنَّى }: خبره، وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي: مبدع السماوات، أو إلى فاعلها: أي: بديع سماواته، من بَدُعَ إذا كان على نمط عجيب، وشكل فائق، وحُسن لائق. يقول الحقّ جلّ جلاله: توبيخًا للمشركين: { وجعلوا لله شركاء } في عبادته، وهم { الجن } أي: الملائكة لاجتنانهم أي: استتارهم، فعبدوهم واعتقدوا أنهم بنات الله، أو الجن حقيقة، وهم الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يُطاع الله تعالى، أو: عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، فقد أشركوا مع الله، و { و } الحال أن الله قد { خلقهم } أي: الجن أي: عبدوهم وهم مخلوقون، أو الضمير للمشركين، أي: عبدوا الجن، وقد عَلِمُوا أن الله قد خلقهم دون الجن لعجزه، وليس من يَخلُق كمَن لا يَخلُق. { وخرقوا له } أي: اختلقوا وافترَوا، أو زوَّرُوا برأيهم الفاسد له { بنين } كالنصارى في المسيح، واليهود في عُزَير، { وبنات } كقول العرب في الملائكة: إنهم بنات الله ـ تعالى الله عن قولهم ـ قالوا ذلك { بغير علم } أي: بلا دليل ولا حجة، بل مجرد افتراء وكذب، { سبحانه وتعالى } أي: تنزيهًا له، وتعاظم قدره { عما يصفون } من أن له ولدًا أو شريكًا. وكيف يكون له الولد أو الشريك، وهو { بديعُ السماوات والأرض }؟. أي: مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، والمعنى: أنه تعالى مُبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة: لأنه تعالى مُنزه عن الأفعال بالمادة. والوالد عنصر الولد، ومُنفصل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. ولذلك قال: { أَنى يكونُ له ولدٌ } أي: من أين، أو كيف يكون له ولد، { ولم تكن له صاحبة } يكون منها الولد، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة في العادة، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه، وكيف أيضًا يكون له ولد { و } قد { خلقَ كلَّ شيء } ، فيكف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه؟ { وهو بكل شيء عليم } أي: أحاط بما من شأنه أن يعلُم كائنًا ما كان، فلا تخفى عليه خافية مما كان، ومما سيكون من الذوات والصفات، ومن جملتها: ما يجوز عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك. { ذلكم } المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات، هو { الله } المستحق للعبادة خاصة، { ربُكم } أي مالك أمركم لا شريك له أصلاً، { خالقُ كل شيء } ، مما كان وسيكون، ولا تكرار مع ما قبله لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لِمَا كان فقط، كما تقتضيه صيغة الماضي، بخلاف الوصف يصلح للجميع، وإذا تقرر أنه خالق كل شيء { فاعبدوه } فإن من كان خالقًا لكل شيء، جامعًا لهذه الصفات، هو المستحق للعبادة وحده، { وهو على كل شيء وكيل } أي: هو متولي أمور جميع عباده ومخلوقاته، التي أنتم من جملتها، فَكِلُوا أمركم إليه، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه.

السابقالتالي
2