الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { لقد أرسلنا رسلنا } من البشر { بالبينات } الحُجج والمعجزات، أو: لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى: { وأنزلنا معهم الكتابَ } أي: جنس الكتاب الشامل للكل لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب: بأن التقدير: وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، { و } أنزلنا { الميزانَ } أي: الشرع لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، { ليقوم الناسُ بالقسط } أي: العدل، وقيل المراد: الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: " مُرْ قومَك يَزِنوا به ". { وأنزلنا الحديدَ } قال ابن عباس: " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء: السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ، والمِطرقة، والإبرة ". أو: { أنزلنا الحديد } أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل: المراد به السلاح. وحاصل مضمن الآية: أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. { فيه بأس شديد } أي: قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، { ومنافعُ للناس } يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، { وليعلم اللّهُ } علم ظهور { مَن ينصُرُه ورسُلَه } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، { بالغيبِ } غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، { إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ } فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب. قال النسفي: والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة: أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم: أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. هـ. { ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم } خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام { وجعلنا في ذريتهما } أولادهما { النبوةَ } الوحي { والكتابَ } جنس الكتاب. وعن ابن عباس: " الخطّ بالقلم ". يقال: كتب كتاباً وكتابة. { فمنهم } من الذرية، أو: مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، { مُهتدٍ } إلى الحق، { وكثيرٌ منهم فاسقون } خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق. { ثم قَفِّينا على آثارهم } أي: نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو: مَن عاصروهم من الرسل، { برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم } أي: أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم.

السابقالتالي
2 3