الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ } * { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } * { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ }

قلت: { كم }: خبرية، تفيد التكثير، ومحلها: رفع بالابتداء، والجملة المنفية: خبر، وجمع الضمير في { شفاعتهم } لأن النكرة المنفية نعم. يقول الحق جلّ جلاله: { وكم من ملكٍ في السماوات } أي: كثير من الملائكة { لا تُغني شفاعتُهم } عند الله تعالى { شيئاً } من الإغناء في وقت من الأوقات، { إِلا مِن بعد أن يأذن اللّهُ } لهم في الشفاعة { لمَن يشاء } أن يشفعوا له، { ويرضَى } ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما مَنْ عداهم من أهل الكفر والطغيان فيهم عن إذن الله بمعزلٍ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر، فما ظنهم بحال الأصنام؟! ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة، فقال: { إِنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة } وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي { ليُسمُّون الملائكةَ } المنزّهين عن سمات النقص { تسميةَ الأنثى } فإن قولهم: الملائكة بنات الله، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته - سبحانه، وهي التسمية بالأنثى، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترئ عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً. { وما لهم به من علم } أي: بما يقولون. وقرىء " بها " أي " بالتسمية، أو بالملائكة. { إِن يتبعونَ إِلا الظن } وهو تقليد الآباء، { وإن الظن } أي: جنس الظن، ولذلك أظهر في موضع الإضمار، { لا يُغني من الحق شيئاً } من الإغناء لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء، وهو لا يُدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها. { فأعْرِضْ عَمَّن تولى عن ذِكْرِنا } أي: عنهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة، ولتعليل الحكم، أي: فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين، المذكِّر بالأمور الآخرة، أو: عن ذكرنا كما ينبغي، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، قال الطيبي: أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة، وهو يقول: { ماهي إلا حياتنا الدنيا... } الخ، { ولم يُرِدْ إِلاَّ الحياةَ الدنيا } وزخارفها، قاصراً نظره إليها، والمراد بالإعراض عنه: إهماله والغيبة عنه، فإنَّ مَن أعرض عن الذكر، وانهمك في الدنيا، بحيث كانت هي منتهى همته، وقصارى سعيه، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً، وإصراراً على الباطل. { ذلك } أي: ما هم فيه من التولِّي، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو { مبلغُهم من العلم } أي: منتهى علمهم، لا يكادون يُجاوزونه إلى غيره، فلا تُجدي فيهم الدعوة والإرشاد شيئاً. وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى " مَن " ولفظها، والمراد بالعلم: مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد.

السابقالتالي
2