الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } * { لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } * { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }

يقول الحقّ جلّ جلاله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، لِما رأوا على يديه من الخوارق، { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } المعنى: لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد، ويقول لبني إسرائيل: اعبدوا الله خالقي وخالقكم. والمشهور في الأخبار، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل، نعم، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له: بولس، حسدًا منه، وذلك أنه دخل في دينهم، وفرق أموالهم، وتأهب للتعبد معهم، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى ـ عليهما السلام ـ في زعمهم، وكان معه رجلان اسمهما: يعقوب وناسور، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما: عيسى هو الله أو ابن الله، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه، فشاع مذهب الرجلين، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية. ثم هددهم على الشرك فقال، أي: عيسى: { إنه من يشرك بالله } في عبادته، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال، { فقد حرم الله عليه الجنة } أي: يمنع من دخولها لأنها دار الموحدين، { ومأواه النار } أي: محله النار. لأنها معدة للمشركين، { وما للظالمين من أنصار } أي: وما لهم أحد ينصرهم من النار. ووضع المظهر موضع المضمر، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام، أو من كلام الله تعالى. ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم، فقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي: أحد ثلاثة، عيسى وأمه وهو ثالثهم، أو أحد الأقانيم الثلاثة، الأب والابن وروح القدس، يريدون بالأب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر، وهذه المقالةـ أعني التثليث، هي قوله النسطورية والملكانية، وما سبق في قوله: { إن الله هو المسيح } قول اليعقوبية، القائلة بالاتحاد، وكلهم ضالون مضلون، { وما من إله إلا إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في ألوهيته، متصلاً ولا منفصلاً، { وإن لم ينتهوا عما يقولون } ، ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي: ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا، عذاب موجع. { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } أي: أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول، فإن تابوا غفر الله لهم، { والله غفور رحيم }. وهذا الاستفهام: تعجب من إصرارهم، مع كون التوبة مقبولة منهم. ثم رد عليهم بقوله: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } بشر { قد خلت من قبله الرسل } ، وخصه الله بآيات، كما خصهم بها، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه، فقد أحيا العصى، وجعلها حية تسعى على يد موسى، بل هو أعجب، وإن كان قد خلقه الله من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب وأم، وهو أغرب، { وأمه صديقة } فقط، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق، { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران إليه افتقار الحيوانات، قال البيضاوي: بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، أي: القابلة للفساد، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة، فقال: { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون } أي: كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله، و { ثم } للتفاوت بين العجبين، أي: أن بياننا للآيات عجب، وإعراضهم عنها أعجب.

السابقالتالي
2