الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { قالت الأعرابُ } أي: بعض الأعراب { آمنّا } نزلت في نفر من بني أسد، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة، فأَظْهَروا الإسلام، ولم يُؤمنوا في السر، وأفْسَدوا طُرق المدينة بالعذَرَات، وأغْلَوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نُقاتلك كما قتلك بنو فلان، وهم يريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، ويمنّون بإسلامهم. { قل } لهم: { لم تؤمنوا } لم تُصدّقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسْلَمنا } فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به، والإسلام هو الدخول في السِّلْم، والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله: { ولمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قلوبكم } فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة، وأما في الشرع فهما متلازمان، فلا إسلام إلا بعد إيمان، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر. والتعبير بـ " لمّا " يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع. فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً، فقيل: قل لم تؤمنوا، مع حسن أدب، فلم يقل: كذبتم صريحاً، ووضع " لم تؤمنوا " الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله: { لم تؤمنوا } عن أن يقال: لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل: ولكن أسلمتم ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: " آمنا " كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم لكان كالتسليم، والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به. وليس قوله: { ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم } تكريراً لمعنى قوله: { لم تؤمنوا } فإنّ فائدة قوله: { لم تؤمنوا } تكذيب دعواهم، وقوله: { ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } توقيت لما أُمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في " قولوا ". قاله النسفي. { وإِن تُطيعوا اللّهَ ورسولَه } بالإخلاص وترك النفاق { لا يَلِتْكُم من أعمالكم شيئاً } من أجورها. يقال: ألَت يألِتُ، وألات يُليت، ولات يلِيت، بمعنى، وهو النقص، { إِنَّ اللّهَ غفور } لما فرط من الذنوب، { رحيمٌ } يستر العيوب. { إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسولِه ثم لم يرتابوا } لم يَشُكُّوا، من: ارتاب، مضارع رابه: إذا أوقعه في الشك والتُهمة، والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في إيمانهم شك فيما آمنوا، ولا اتهام لمَن صدّقوه، ولمَا كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أُفرد بالذكر بعد تقدُّم الإيمان، تنبيهاً على عُلو مكانه، وعُطف على الإيمان بثمّ إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّاً جديداً.

السابقالتالي
2