الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }

يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم من ذَكَرٍ وأُنثى } آدم وحوّاء، أو: كل واحد منكم من أبٍ وأم، فما منكم من أحد إلا وهو يُدلي بما يُدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب. وفي الحديث: " لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى " وقال أيضاً: " ثلاثة من أمر الجاهلية: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والدعاء بدعاء الجاهلية " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. { وجعلناكم شعوباً وقبائلَ } الشعوب: رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر، والأوس والخزرج،واحدها: شَعب - بفتح الشين - سُمُّوا بذلك لتشعُّبهم كتشعُّب أغصان الشجرة، والقبائل: دون الشعوب، واحدها: قبيلة، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر. ودون القبائل: العمائر، جمع عَمارة بفتح العين، وهم كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر: البطون، واحدها: بطن، وهي كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون: الأفخاذ، واحدها: فَخْذ، كهاشم وأمية من بني لؤي، ثم الفصائل والعشائر، واحدها: فصيلة وعشيرة، فالشعب تجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعَمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل. وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل. { لِتَعارفوا } أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضُكم نسبَ بعض، فلا يتعدّى إلى غير آبائه، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب. ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان، ويكتسب الشرفَ والكرمَ عند الله، فقال: { إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم } أي: لا أنسبكم، فإنَّ مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى، فمَن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى، قال صلى الله عليه وسلم: " مَن سَرّه أن يكون أكرم الناس فليتقِ الله " ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وقال: " الحمد لله الذي أذهب عُبِّيَّةَ الجاهلية وتكبُّرها يا أيها الناس إنما الناس رجلان: رجل مؤمن تَقيّ كريمٌ على الله، ورجل فاجر شقي هَيِّن على الله " ثم قرأ الآية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقى. وقال قتادة: أكرم الكرم التقى، والأمُ اللؤم الفجور، وسُئل عليه السلام عن خير الناس؟ فقال: " آمرُكم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، وأوصلكم للرحم " وقال عمر رضي الله عنه: " كرم الرجل: دينه وتقواه، وأصله: عقله، ومروءته: خُلقه، وحَسَبُه: ماله ". وعن يزيد بن شَجَرَةَ: مرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة، فرأى غلاماً أسود، قائماً يُنادَى عليه مَن يزيد في ثمنه، وكان الغلام يقول: مَن اشتراني فعلى شرط ألاَّ يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه بعضهم، فعادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم تُوفي، فتولى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غُسله وتكفينَه ودفنَه، فقالت المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا، فما نرى أحداً منا لقي في حياته ولا موته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فنزلت.

السابقالتالي
2