الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } * { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }

يقول الحق جلّ جلاله: { هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى } بالتوحيد، أي: ملتبساً به، أو: بسببه، أو: لأجْله، { ودينِ الحق } وبدين الإسلام، وبيان الإيمان والإحسان، وقال الورتجبي: ودين الحق: هو بيان معرفته والأدب بين يديه. هـ. { ليُظهره على الدين كله } ليُعْلِيَه على جنس الدين، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب، وقد حقّق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى ديناً قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة، إلا ما كان من النصارى بالجزيرة، حيث فرّط أهل الإسلام، وقيل: هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات. { وكفى بالله شهيداً } على أن ما وعده كائن. وعن الحسن: شهد على نفسه أنه سيُظهر دينه، أو: كفى به شهيداً على نبوة محمد صلى عليه وسلم وهو تمييز، أو حال. { محمد رسولُ الله } أي: ذلك المرسَل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله، فهو خبر عن مضمر، و " رسول ": نعت، أو: بدل، أو: بيان، أو: " محمد ": مبتدأ و " رسول ": خبر، { والذين معه } مبتدأ، خبره: { أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم } أو: " الذين ": عطف على " محمد " ، و " أشداء ": خبر الجميع، أي: غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم، رُحماء متعاطفون بينهم، يعني: أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ، وهذا كقوله تعالى:أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم: أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه. وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللّهُ به الصحابةَ رضي الله عنهم مطلوبٌ من جميع المؤمنين، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى " رواه البخاري، وقال أيضاً: " نَظَرُ الرجل إلى أخيهِ شوقاً خيراُ من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا " ، ذكره في الجامع. { تراهم رُكَّعاً سجداً } أي: تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات، أو: على قيام الليل، كما قال مَن شاهد حالهم: رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار، وهو استئناف، أو: خبر، { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي: ثواباً ورضا وتقريباً { سِيماهم } علامَاتهم { في وجوههم } في جباههم { من أثر السجود } أي: من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود. وما رُوي عنه عليه السلام: " لا تُعلموا صوَركم " أي: لا تسمُوها، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض، ليحدث ذلك فيها، وذلك رياء ونفاق، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد، فلا ينهى عنه، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم.

السابقالتالي
2 3