الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }

{ مثل }: مبتدأ حُذف خبره، أي: صفة الجنة ما تسمعون، وقدَّره سيبويه: فيما يُتلى عليكم مثل الجنة، وقيل: المثل زائد، أي: الجنة فيها أنهار... الخ، و { كمَن هو خالد }: خبر لمحذوف، أي: أَمَن هو خالد في هذه الجنة، كمَن هو خالد في النار؟ يقول الحق جلّ جلاله: { مَثلُ الجنةِ } أي: صفتها العجيبة، العظيمة الشأن { التي وُعدَ المتقون } الشركَ والمعاصي، هو ما نذكره لكم، { فيها أنهار من ماء غيرِ آسنٍ } غير متغير الطعم واللون والرائحة، يقال: أسن الماء: إذا تغير، سواء أنتن أم لا، فهو آسن وأسِن، { وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمُه } كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّباً أو مضروباً. والظاهر: أنه يعطَاه كذلك، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس. { وأنهارٌ من خبرٍ لذةٍ للشاربين } أي: لذيذة، ليس فيها كراهة طعم وريح، ولا غائلة سُكْرٍ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ. و " لذة ": إما تأنيث " لذّ " بمعنى لذيذ، أو: مصدر نُعت به للمبالغة. { وأنهار من عسل مُصفى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره، وفي حديث الترمذي: " إنَّ في الجنة بحرَ الماء، وبحرَ اللبن، وبحرَ العسل، وبحرَ الخمر، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ " قال: حسن صحيح. وعن كعب: نهر دجلة من نهر ماء الجنة، والفرات نهر من لبنها، والنيل من نهر خمرها، وسَيْحان من نهر عسلها، والكل يخرج من الكوثر. قلت: ولعل الثالثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم، ليبقى الإيمان بالغيب. والله تعالى أعلم. قيل: بُدئ من هذه الأنهار بالماء لأنه لا يُستغنى عنه قط، ثم باللبن لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الريّ المطعومُ تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به، ثم بالعسل لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر في الرتبة. { ولهم فيها } مع ما ذكر من فنون الأنعام { من كل الثمراتٍ } أي: صنف من كل الثمرات. { و } لهم { مغفِرةٌ } عظيمة { من ربهم } أي: كائنة من ربهم، فهو متعلق أي: مغفرة عظيمة من ربهم. وعبّر بعنوان المغفرة دون الرحمة إشعاراً بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص في الدارين يستوجب المغفرة. أيكون هذا { كمَن هو خالد في النار }؟ أو: مثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات، ومعناه: النفي، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، ودخوله في حيّزه، وهو قوله:أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [محمد: 14]، وفائدة حذف حرف الإنكار، زيادةُ تصويرٍ لمكابرة مَن يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه، وأنه بمنزلة مَن يُثبت التسوية بين الجنة، التي يجري فيها تلك الأنهار، وبين النار، التي يُسقى أهلها الحميم الحار، المُشار إليه بقوله: { وسُقوا ماءً حميماً } حارّاً في النهاية، إذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم { فقَطَّع أمعاءهم } مصارينهم، التي هي مكان تلك الأشربة.

السابقالتالي
2