الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ }

قلت: { لهم } متعلق بتستعجل، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف، لا يليق بإعجاز التنزيل، خلافاً لوقف الهبطي، { وبلاغ } خبر عن مضمر، أي: هذا بلاغ. يقول الحق جلّ جلاله: { فاصبر } يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة { كما صبر أُولوا العزم } أي: الثبات والحزم { من الرسل } فإنك مِن جملتهم، بل من أكملهم وأفضلهم، و " من " للتبعيض، واختلف في تعيينهم، فقيل: هم المذكورون في الأحزابوَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيمَ } [الأحزاب: 7] وهم أهل الشرائع، الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمُّل مشاقها، وسياسة مَن تمسّك بها، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل: هم الصابرون على بلاء الله تعالى، كنوح صَبَر على إذاية قومه، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وذَبْحِِ ولده، ومفارقة وطنه، وترك ولده ببلد خالية من العمران، ويعقوب على فقد ولده، وذهَاب بصره، ويوسف على الجُب والسجن، وأيوب على الضُر، وموسى قال له قومه:إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [الشعراء: 61، 62] وعلى مكابدة التيه مع قومه، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة. وقيل: هم اثنا عشر نبياً، أُرسلوا إلى بني إسرائيل، فعصوهم، فأوحى الله إلى الأنبياء: إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل، فشقَّ عليهم، فأوحى الله إليهم: أن اختاروا لأنفسكم، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب، وأنجيت بني إسرائيل، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل، فتشاوروا بينهم، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل، فسلّط عليهم ملوك الأرض، فمنهم مَن نُشر بالمناشير، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه، ومنهم مَن رُفع على الخشب، ومنهم مَن أُحرق بالنار. نسأل الله العافية، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء. وقيل: " من " للتبيين، كقولك: اشتريت ثياباً من الخز، فكلهم أولو العزم، وقيل: إلا يونس، لقوله:وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [القلم: 48] وآدم لقوله:وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [طه: 115] ثم قال تعالى: { ولا تستعجلْ لهم } أي: لكفار مكة نزول العذاب، فإنه نازل بهم، { كأنهم يوم يَرَوْن ما يُوعدون } من العذاب { لم يلبثوا } في الدنيا { إِلا ساعةً } يسيرة { من نهارٍ } لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. وقال الثعالبي: وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد، وحفظ الحواس، ومراعاة الأنفاس، ومراقبة مولاك، فاتخذه صاحباً، ودعْ الناس جانباً، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله، والفرار مما سواه، فانظره. هذا { بلاغٌ } أي: هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول، أو مني إليك، ومنك إلى العالمين.

السابقالتالي
2