الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }

قلت: { يغفِروا } قيل: جواب الأمر المذكور، أي: إن تقل يغفروا، وقيل لأمر محذوف، أي: قل لهم اغفروا يغفروا، وقيل: حذف لام الأمر، أي: ليغفروا، وقرأ أبو جعفر: ليُجزي قوماً بالبناء للمفعول، ونصب قوماً إما على نيابة المصدر، أي: ليجزي الجزاء قوماً، أو ليجزي الخيرُ قوماً، فأضمر الخير لدلالة الكلام عليه، أو ناب الجار مع وجود المفعول به، وهو قليل. يقول الحق جلّ جلاله: { قل للذين آمنوا يغفِروا للذين لا يرجون أيامَ الله } أي: يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه، من قولهم: " أيام العرب " لوقائعها، أو: لا يأمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين، ووعدهم بالفوز فيها. قيل: نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت، قال ابن عطية: ينبغي أن يقال: إن الأمور العظام، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية، وإن الأمور الحقيرة، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك، يحتمل أن تبقى مُحكمة، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى. هـ. قيل: نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار، فهَمَّ أن يبطشَ به، فنزلت. وقيل: نزلت في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في أذّى شديد من المشركين، قبل أن يُؤمروا بالقتال، فشكَوْا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا تكون الآية مكية. وقال ابن عباس: لما نزل:مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245] قال فنحاص: افتقر رَبُّ محمد، فلما بلغ ذلك عُمر، طلبه بالسيف ليقتله، فنزلت، فوضع السيف، وقال: والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي. وقيل: في شأن أُبيّ ابن سلول، رأس المنافقين، لَمّا قال في غزوة المريسيع: ما مثلُنا ومثل هؤلاء - يعني المهاجرين - إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبَك يأكلك، فبلغ ذلك عمر، فاشتمل السيف، يريد التوجه إليه، فنزلت. وعلى هذا تكون مدنية. { لِيَجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون } أي: إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة. وتنكير قوم مدح لهم، كأنه قيل: لِيَجزي قوماً - أيَّما قوم، أو قوماً مخصوصين - بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار، والإغضاء عنهم، بكظم الغيظ، واحتمال المكروه، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم، ويجوز أن يُراد بالقوم: الكفرة، وبما كانوا يكسبون: سيئاتهم، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين. { من عَمِلَ صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } أي: لها الثواب وعليها العقاب، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله، { ثم إِلى ربكم تُرجعون } فيجازيكم على أعمالكم، خيراً كان أو شرّاً. الإشارة: مذهب الصوفية: العفو عمن ظلمهم، والإحسان إلى مَن أساء إليهم لأنهم رحمة للعباد، ومقصدهم بذلك رضا الله، لأن الخلق عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

السابقالتالي
2