الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } * { وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } * { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } * { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } * { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } * { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } * { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ } * { وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ ٱلآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ }

يقول الحق جلّ جلاله: { كم تركوا من جناتٍ وعُيون } أي: كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً، من رشيد إلى أسوان، { وعُيون } يحتمل أن يريد الخلجان، شَبَّهها بالعيون، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت، { وزُروعٍ } أي: مزارع، { ومَقام كريم } محافل مُزينة، ومنازل مُحسَّنة، وسمّاه كريماً لأنه مجلس الملوك، وقيل: المنابر، { ونَعْمةٍ } أي: بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم، { كانوا فيها فاكِهين } أي: متنعّمين فرحين مسرورين. وفي المشارق: النعمة - بالفتح التنعُّم، وبالكسر: اسم ما أنعم الله به على عباده، قال ابن عطية: النعمة - بالفتح: غضاوة العيش، ولذاذة الحياة، والنعمة - بالكسر: أعم من هذا كله، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. هـ فانظره. { كذلك } أي: الأمر كذلك، فالكاف في محل الرفع، على أنه خبر عن مضمر، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه: { تركوا } أي: مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، { وأورثناها قوماً آخرين } ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين، ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها. وقال الحسن: رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر، نظيره:وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفَونَ... } [الأعراف: 137] الآية، ومثله عن القرطبي والبيضاوي، وكذلك في نوادر الأصول، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء. وفي الآية اعتبار واستبصار، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً. { فما بَكَتْ عليهم السماءُ والأرض } مجاز عن الاكتراث بهلاكهم، والاعتداد بوجودهم، وفيه تهكُّم بهم، وبحالهم المنافية، بحال مَن يعظم فقده، فيقال: { بكت عليهم السماء والأرض } وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا: بكته الريحُ والبرقُ والسماء، قال الشاعر:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ   
وقال جرير، يرثي عمر بن عبد العزيز:
فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له وقُمْتَ فينا بأمر اللّهِ يَا عُمَرا   
وقيل: البكاء حقيقة، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه، ومحل عبادته، ومن السماء مَصْعدُ عمله، كما في الحديث، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر، ودوابه، وهَوام البر وأنعامه، والطير في الهواء، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم، بل يفرح بهلاكهم، { وما كانوا } لّمَّا جاء وقت هلاكهم { مُنظّرين } ممهلين إلى وقت آخر، أو إلى الآخر، بل عجّل لهم في الدنيا. { ولقد نجينا بني إِسرائيلَ } لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا { من العذاب المهين } من استعباد فرعون إياهم، وقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، { من فرعون } بدل من العذاب المهين بإعادة الجار، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم، أو خبر عن مضمر، أي: ذلك من فرعون، وقُرئ " مَن فرعون " على معنى: هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً، وتبيينه بقوله تعالى: { إِنه كان عالياً من المسرفين } ثانياً، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه وقوله تعالى: { من المسرفين } إما خبر ثان، أي: كان متكبراً مسرفاً، أو حال من الضمير في " عالياً " أي: كان رفيع الطبقة من بين المسرفين، فائقاً لهم، بليغاً في الإسراف.

السابقالتالي
2 3