الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } * { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } * { بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } * { وَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { وإِذ قال إبراهيمُ } أي: واذكر وقت قوله عليه السلام { ولأبيه وقومه } المُنكّبين على التقليد، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: { إِنني بَرَاء } أي: بريء { مما تعبدون } ، وتمسك بالبرهان. وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال، أو: ليقلدوه، إن لم يكن لهم بُد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. و " برَاء ": مصدر، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكر والمؤنث، كرجل عدل، وامرأة عدل، وقوم عدل. و " ما ": إما مصدرية، أو: موصولة، أي: بريء من عبادتكم ومن معبودكم { إِلا الذين فَطَرَني } استثناء متصل، أو: منقطع، على أن " ما " تعم أُولي العلم وغيرهم، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام، او: صفة، على أن " ما " موصوفة، أي: إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي { فطرني } خلقني { فإِنه سيَهدين } يثبتني على الهداية، أو: سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن. والأوجه: أن السين للتأكيد دون التسويف، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. { وجعلها } أي: وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها، وهي قوله: { إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } ، { كلمة باقية في عَقِبهِ } أي: في ذريته، حيث وصَّاهم بها، كما نطق به قوله تعالى:وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ... } [البقرة: 132]، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى، ويدعوهم إلى توحيده. { لعلهم يرجعون } أي: جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد. { بل متعتُ هؤلاء } ، ضراب عن محذوف، ينساق إليه الكلام، كأنه قيل: جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم، فلم يحصل ما رجاه، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة. { وآباءهم } بالمد في العمر، والنعمة، والمهلة، فاغترُّوا بالمهلة، وانهمكوا في الشهوات، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد، { حتى جاءَهم الحقُّ } القرآن { ورسولٌ مبينٌ } ظاهر الرسالة، واضحها بالمعجزات الباهرة، أو: مبين التوحيد. بالآيات والحجج القاطعة. وفي الآية توبيخ لهم، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر، والثبات على التوحيد والإيمان، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال. وحاصل معنى الآية: أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك، نسلاً بعد نسل، فيرجع المشرك عن شركه، فلم يرجعوا، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق، فكفروا وأصرُّوا، { ولمَّا جاءهم الحقُّ } أي: القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة، ويُرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا كفراً وعُتواً، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به، حيث { قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون } فسَمّوا القرآنَ سحراً، وجحدوه ومَن جاء به.

السابقالتالي
2