الرئيسية - التفاسير


* تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } * { وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } * { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } * { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ }

يقول الحق جلّ جلاله: { ولئن سألتهم } أي: المشركين { مَنْ خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقهن العزيزُ العليمُ } أي: ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذن الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار، وليُرتب عليه ما ينسابه من الأوصاف، وهو قوله: { الذي جعل لكم الأرض مهاداً } أي: موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء، { وجعل لكم فيها سُبُلاً } تسلكونها في أسفاركم { لعلكم تهتدون } أي: لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم، أو: بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم، الذي هو المقصد الأصلي. { والذي نَزَّلَ من السماء ماء بِقَدَرِ } بمقدار يسلم معه العباد، وتحتاج إليه البلاد، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، { فأنشرنا به } أي: أحيينا بذلك الماء { بلدةً ميْتاً } خالياً عنه الماء والنبات. وقُرئ: " ميِّتاً " بالتشديد. وتذكيره لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره، { كذلك تُخرجون } أي: مثل ذلك الإحياء، الذي هو في الحقيقة: إخراج النبات من الأرض، تُخرجون من قبوركم أحياء. وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء، الذي هو إحياء الموتى، وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لإن لشأن الإنبات، وتهوين لأمر البعث، لتقويم سَنَنِ الاستدلال، وتوضيح منهاج القياس. وهذه الجُمل، من قوله { الذي جعل... } استئناف منه تعالى، وليست من مقول الكفار لأنهم يُنكرون الإخراج من القبول، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث، وكذا قوله: { والذي خلق الأزواجَ كلها } ، أي: أصناف المخلوقات بحذافيرها، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل: الأزواج: ما كان مزدوجاً، كالذكر والأنثى، والفوق والتحت، والأبيض والأسود، والحلو والحامض، وقيل: كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله. { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } أي: ما تركبونه، يقال: ركبوا في الفلك، وركبوا الأنعام، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة، فقيل: تركبونه. { لتستووا على ظهوره }: ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام، { ثم تذكروا نعمةَ ربكم إِذا استويتم عليه } تذكروها بقلوبكم، معترفين بها بألسنتكم، مستعظمين لها، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم، { وتقولوا سبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا } أي: ذلَّل لنا هذا المركوب، متعجبين من ذلك { وما كُنا له مُقْرِنينَ } مطيقين. يقال: أقرن الشي: إذا أطاقه، وأصله: وجده قرينه لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله، { وإِنَّا إِلى ربنا لمنقلبون } أي: راجعون. وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا، آخر مركبه منها، وهو: الجنازة فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا، وملاهيها وأشغالها.

السابقالتالي
2